الجمعة، 20 ديسمبر 2013

لا مكان للرواية في عالم صبياني، روث يحاور كونديرا..



                                           فيليب روث
                                      ميلان كونديرا

ميلان كونديرا: ولد في الأول من ابريل للعام 1929 لأبٍ وأمٍ تشيكيين. كان والده، لودفيك كونديرا (1891 - 1971) عالم موسيقى ورئيس جامعة برنو. نشر في العام 1953 أول دواوينه الشعرية إلا أنه لم يحظ بالاهتمام إلا مع مجموعته القصصية الأولى (غراميات ضاحكة) 1963
 ..........................................................................................

لا مكان لرواية في عالم صبياني متوحش

                                                                   ميلان كونديرا

                                                           حاوره : فيليب روث
                                                          ترجمة: ياسر شعبان  

*روث : هل تظن أن تدمير العالم أصبح وشيكًا؟
- كونديرا : يعتمد ذلك على ما تعينه بكلمة "وشيك".

* روث : غدا أو بعد غد.
- كونديرا: فكرة اندفاع العالم نحو نهايته قديمة جدا.

*روث: إذن لا داع للقلق.
- كونديرا: بالعكس.. فعندما يستقر الخوف بعقل البشر لعصور طويلة فلابد أن يكون هناك سبب لذلك.

*روث: يبدو لي أن فكرة تدمير العالم تشكل خلفية كل القصص التي يضمها"كتاب الضحك والنسيان" بل وتلقي بظلالها حتى على القصص ذات الطبيعة الساخرة.
    - كونديرا: إذا أخبرني شخص ما وأنا طفل أنه سيأتي يوم وأشهد فيه تلاشي بلدي من العالم كنت سأعتبر ذلك نوعا من الهراء؛ شيئا لا أستطيع حتى أن أتخيله فالإنسان يعرف أنه كائن فان لكنه على يقين أن بلده خالدة.ولكن بعد الغزو الروسي عام 1968 أصبح كل مواطن تشيكي في مواجهة رعب أن دولته قد تختفي من الخارطة الأوروبية، تماما مثلما حدث خلال العقود الخمسة الماضية أن اختفي(40مليون) أوكرانى من العالم دون أن ينتبه أحد لذلك.كذلك الحال بالسبة ليتوانيا. هل تعرف أنه خلال القرن السابع عشر؛ كانت"ليتوانيا" دولة أوربية قوية؟ واليوم تضع "روسيا" الليتوانيين تحت التحفظ كما لو كانوا مهددين بالانقراض، ويحولون دون وصول زوار لهم ليمنعوا تسرب أية معلومات للخارج عن وجودهم.ولا أعرف ما يخبئه المستقبل لبلدي. ومن المؤكد أن الروس سيبذلون كل ما في وسعهم لتذوبيها تدريجيا في حضارتهم. وليس بمقدور أحد أن يخمن هل سينجحون أم لا. لكن ذلك ممكن. والإدراك المفاجئ لوجود هذا الاحتمال كاف لتغيير رؤية المرء للحياة .فأنا اليوم أرى أوروبا كلها كيانا هشا وفانيا. 

*روث: أليست هناك اختلافات جذرية بين مصير شرق أوروبا وغربها؟
- كونديرا: وفقا لمفهوم التاريخ الثقافي تعتبر"روسيا" مرادفا لأوروبا الشرقية؛ وذلك بما لديها من تاريخ خاص مرتبط بالعالم البيزنطي. أما" بوهيميا، بولندا، المجر والنمسا" فلم تكن أبدا جزء من أوروبا الشرقية. فمنذ مرحلة مبكرة شاركت هذه الدول في مغامرة الحضارة الغربية. وهنا في وسط أوروبا وجدت الثقافة الحديثة غايتها الكبرى في التحليل النفسي_ البنيوية_ الموسيقي.. وحققت إنجازاتها الأدبية من خلال كتاب مثل "كافكا- موزيل" اللذين فتحا أفقا جمالية جديدة أمام الراوية. وبسبب إلحاق وسط أوروبا وربطه بالحضارة الروسية بعد انتهاء الحرب العالمية، فقدت الثقافة الغربية مركز ثقلها الحيوي. ويعد ذلك أهم حدث في تاريخ الغرب في القرن العشرين، لأننا لا نستطيع أن نغفل أن نهاية وسط أوروبا تعد بمثابة بداية النهاية لأوروبا بأكملها.

*روث: خلال ربيع"براغ" تم نشر روايتك"المزحه" ومجموعتك القصصية "غراميات مرحة" في طبعة من 150 ألف نسخة، وبعد الغزو الروسي تم إقصاؤك عن موقعك كأستاذ في أكاديمية السينما، وصودرت كتبك من المكتبات العامة، وبعد سبع سنوات أخفيت وزوجتك قليل من الكتب والملابس في الحقيبة الخلفية لسيارتك وسفرت بها إلي فرنسا. وفي فرنسا أصبحت أكثر الكتاب الأجانب شهرة وتوزيعا فماذا كان شعورك كمهاجر؟
- كونديرا: بالنسبة للكاتب تعد تجربة العيش في عدد من الدول تجربة ثرية للغاية. فعندما ترى العالم من جوانب متعددة، عندئذ فقط يصبح باستطاعتك أن تفهمه. وفي "كتاب الضحك والنسيان" الذي كتبته في فرنسا، يتجلى فضاء جغرافي مميز حيث أن الأحداث التي تقع في "براغ" يتم رؤيتها بواسطة عيون غرب أوروبية بينما تلك التي تحدث في فرنسا يتم رؤيتها بعيون براغية... إنها مواجهة بين عالمين. بأحد الجانبين يوجد وطني بتاريخ يمتد طوال نصف قرن خبرنا خلاله الديمقراطية –الفاشية والثورة، الإرهاب الستاليني واضمحلال الستالينيه وانهيارها، والاحتلال الألماني ثم الروسي، التهجير الجماعي، وموت الغرب في أرضه. والآن يغرق وطني تحت أثقال التاريخ، ويتطلع إلي العالم بعيون ملؤها الحيرة والشك.وعلى الجانب الآخر هناك"فرنسا" التي كانت لقرون مركز العالم، والآن تعاني من نقص الأحداث التاريخية الكبرى. ولهذا السبب هناك تبدل صاخب للمواقف الأيديولوجية الراديكالية، وتطلع عصابي شعري لحدث عظيم ينتمي لهذا البلد،حدث ربما لن يأتي أبدا.

*روث: هل تعيش في فرنسا كغريب أما تشعر ثقافيا وكأنك في وطنك؟
- كونديرا: أنا مغرم جدا بالثقافة الفرنسية ومدين لها بالكثير، خاصة للمنجز الأدبي القديم. ويعتبر"ريبليه" أقرب الكتاب إلي. وهناك"ديدرو" وعملة الفاتن"جاك القاتل" وكذلك الكاتب"لورانس ستيرن". هؤلاء أعظم المجريين عبر تاريخ الرواية. وكانت تجاربهم مليئة بالمتعة والمرح والسعادة وجميعا آخذة في التلاشي الآن من الأدب الفرنسي. وبدونها يفقد كل شئ في الفن أهميته. فلقد فهم كل من"ديدور" و"سيترن" الرواية كلعبة كبرى، لقد اكتشفا روح المرح والدعابة في الشكل الروائي. وعندما أسمع الجدل الدائر حول أن الرواية قد استنفدت إمكاناتها، يتملكني شعور مغاير تماما، فالرواية طوال تاريخها غفلت عن كثير من إمكاناتها وعلي سبيل المثال فإن إشارات التطوير المخبأة في روايات"ديدرو" و" استيرن" لم يلتقطها أحد من الروائيين اللاحقين.

*روث: لم يطلق على عملك "كتاب الضحك والنسيان" أنه رواية، بينما أشرت في داخل هذا العمل إلي أنك تعتبره رواية حافلة بالتنويعات، هل هو رواية أم لا؟
- كونديرا: وفقا لرؤيتي الجمالية أعتبره "رواية" لكنني لا أرغب في فرض رأيي هذا على أحد. فهناك حرية هائلة كامنة في الشكل الروائي ولذلك فمن الخطأ اعتبار إحدى الأشكال أو الأنماط بمثابة جوهر الرواية وحصنها المنيع.

*روث : لكن  هناك شيئا ما يجعل الرواية رواية ويضع حدا لهذه الحرية.
- كونديرا: الرواية قطعة طويلة من النثر المخلق والذي يعتمد على اللعب مع شخصيات مخترعة. وهذه هي الحدود التي أعرفها. وعند استخدامي تعبير"مخلق" أفكر في رغبة الروائي في القبض على موضوعه والإحاطة به من كل الجهات وفي أقصي درجات الاكتمال الممكنة وهكذا فالقدرة التخليقية للرواية قادرة على تجميع العديد من الأشياء مثل(مقال ساخر_ حقيقة تاريخية_ تحليق الخيال) وتحويلها إلي "وحدة كلية" مثل الأصوات الموسيقية. وهكذا يتجلى أن وحدة الكتاب ليست بحاجة للحبكة كي تنطلق منها، فهناك الموضوع الذي يستطيع منحها هذه الانطلاقة وفي "كتاب الضحك والنسيان" لدي موضوعان: الضحك والنسيان.

*روث: الضحك قريب منك دائما. ويتفجر الضحك في كتبك إما من خلال الدعابة أو السخرية. وعندما تصبح شخصياتك أقرب إلي الحزن يكون ذلك نتيجة لمواجهتها عالم فقد روح الدعابة والمرح.
- كونديرا: عرفت قيمة المرح خلال فترة الحكم الستاليني الرهيب. كنت في العشرين حينها، وعندما كنت أكتشف أن أحد الأشخاص ليس ستاليني وبالتالي لا داع للخوف منه، كنا نتبادل الابتسام. وهكذا أصبحت روح المرح علامة ثقة عند التعارف. ومنذ ذلك الحين بدأت أشعر بالرعب من العالم الذي يفقد يوما بعد يوم روح المرح.

*روث: في" كتاب الضحك والنسيان" أقمت مقارنة ذات مغزى بين ضحك الملائكة و ضحك الشيطان. فالشيطان يضحك لأن عالم الرب يبدو له بلا معنى، بينما تضحك الملائكة لأنها ترى معنى لأنها لكل شيء في عالم الرب.
- كونديرا: والإنسان كذلك يستخدم الضحك للتعبير عن موقفين إيمانيين مختلفين. فعندما تسقط قبعة أحد الأشخاص فوق كفن بمقبرة تم حفرها حديثا، تفقد الجنازة معناها ويتفجر الضحك. وكذلك قد تري عاشقين يعدوان عبر المروج؛ ويداهما متعانقتان؛ ويضحكان. وليس لضحكهما علاقة بالنكات أو المرح إنه الضحك الجاد للملائكة تعبيرا عن سعادتها بأنها موجودة. وكلا النوعين من الضحك ينتمي لمباهج الحياة، ولكنة يعبر كذلك عن رؤية مزدوجة : الضحك الحماسي لأنصار الملائكة والمقتنعون تماما بأهمية عالمهم والمستعدون لشنق أي شخص لا يشاركهم  بهجتهم، أما النوع الآخر للضحك فيتعالى من الجانب الآخر ؛ معلناً أن كل شيء أصبح بلا معنى حتى الجنازات بالنسبة له ليست سوى سخف والجنس الجماعي مجرد بانتومايم كوميدي. وهكذا يتجلى أن الحياة الإنسانية بين شقي رحى، التعصب والتشكك التام.

*روث: أعتقد أن ما تطلق عليه الآن "ضحك الملائكة" هو تعبير جديد مرادف لتعبير "الموقف الشعري للحياة" والذي تجلى في رواياتك السابقة على "كتاب الضحك والنسيان" ففي أحد كتبك صورت العهد الستاليني الرهيب، عهداً من الجلادين والشعراء.
كونديرا: ليست الشمولية جحيماً فقط. بل حلماً بالفردوس،الأرضي حيث يعيش الجميع في توافق ويجمعهم إيمان واحد وإرادة واحدة دون أسرار يخفيها أحدهم عن الآخر.ولقد حلم " أندريه بريتون" بهذا الفردوس عندما تحدث عن "المنزل الزجاجي" الذي يتوق للعيش داخله. وإذا لم تستغل الشمولية هذه النماذج الأولية عميقة الوجود داخلنا والتي تمتد جذورها إلى كل الأديان، لم تكن لتجذب هذه الأعداد الضخمة من الناس خاصة في المراحل الأولى لنشأتها.
وبمجرد أن يبدأ الحلم بالفردوس التحول إلى حقيقة واقعة، يبدأ الناس من هنا وهناك الإطاحة بمن يقف في طريقهم إلى هذا الفردوس، وعندئذ يبدأ حكام الفردوس تشييد معسكر خارج فردوسهم، وبمرور الوقت يتضخم هذا المعسكر بينما يتضاءل حجم الفردوس ويصبح فقيراً.

*روث: في "كتاب الضحك والنسيان" صورت الشاعر الفرنسي العظيم "بول إيلوار" يحلق فوق الفردوس والمعسكر وهو يغني.. فهل هذه الحكاية ذات أصل تاريخي؟
كونديرا: بعد الحرب انفصل "بول إيلوار" عن الحركة السريالية، وأصبح المدافع الأعظم عما يمكن أن نطلق عليه "شعر الشمولية". وغني للأخوة – السلام – العدل – الغد الأفضل – لفكرة الرفاق وضد العزلة – للبهجة وضد الكآبة – للبراءة وضد السخرية.
وفي عام 1980 عندما منح حكام الفردوس "إيلوار" لقب "صديق براغ"، كان أحد أصدقائه السرياليين في طريقه  لتنفيذ عقوبة الإعدام. وكبت "إيلوار" مشاعر الصداقة الشخصية لصالح المثل العليا. وأعلن على الملأ موافقته على إعدام صديقه "زالفيس كالاندرا".
وبينما كان الجلاد ينفذ الإعدام كان الشاعر يغني.
ولم يقتصر الغناء على الشاعر وحده فلقد كان عهد الرعب الستاليني عهداً من "الهياج الشعري الجماعي" والآن نسى كل ذلك تماماً رغم أنه جوهر المســالة.
الناس يحبون أن يقولوا : الثورة جميلة وحده الإرهاب الذي قد ينشأ خلالها هو الشر.
لكن ذلك غير صحيح، فالشر موجود فعلاً في الجمال، والجحيم موجود في الحلم بالفردوس. وإذا كنا نرغب في إدراك جوهر الجحيم وفهمه، يجب أن نختبر جوهر الفردوس ونشأته كفكرة.
ولكن ما الذات. إنها محصلة كل ما نتذكره.
وهكذا فإن ما يرعبنا في الموت ليس فقدان الماضي، فالنسيان أحد أشكال الموت الموجودة دائماً طوال الحياة وهذه مشكلة بطلة (كتاب الضحك والنسيان) فهي تحاول يائسة أن تحفظ ذكريات زوجها وحبيبها الميت من التلاشي.
لكن النسيان يعد أحد المشكلات الكبرى للسياسيين فعندما تريد قوة كبرى أن تحرم دولة صغيرة من وعيها القومي، تستخدم وسيلة مضمونة وهي "النسيان المنظم" وهذا ما حدث في بوهيميا فالأدب التشيكي المعاصر – رغم عدم أهميته – لم يطبع طوال (12) سنة، وأعلنت قوائم النفي وقد ضمت مائتي كاتب من بينهم الراحل "فرانز كافكا". وكذلك فصل (145) متخصصاً في التاريخ من وظائفهم الجماعية، وأعيدت كتابة التاريخ. وتم تدمير الآثار.
والأمة التي تفقد وعيها بالماضي، تفقد ذاتها تدريجياً وهكذا كشفت لنا وحشية الوضع السياسي وممارساته، المشكلة المتافيزيقية المتعلقة بالنسيان والتي نواجهها طوال الوقت، وكل يوم دون أن نعيرها انتباها.
وتكشف السياسة أقنعة الحياة الخاصة، والعكس صحيح أسهل شئ أن تدين المعسكرات، لكن من الصعب أن ترفض ذلك الشعر الشمولي الذي روج لفكرة امتداد هذه المعسكرات حول الفردوس.
والآن يرفض الجميع هذه المعسكرات، ورغم ذلك مازالوا على أهبة الاستعداد أن يتركوا أنفسهم للشعر الشمولي لينومهم مغناطيسياً ليسيروا في صفوف إلى المعسكرات الجديدة على إيقاع نفس الأغنية التي تغني بها "إيلوار" وهو يحلق فوق "براغ" مثل الملاك في مسرحية "لير" بينما يتصاعد الدخان من جثة صديقه "كالاندرا".

*روث: أكثر ما تتميز به كتابتك تلك المواجهة الدائمة بين الخاص والعام، ليس وفقاً للشائع عن وجود خلفية سياسية للقصص الخاصة أو تداخل الأحداث السياسية في الحيوات الخاصة. ولكنك دائماً ما توضح أن الأحداث السياسية خاضعة لنفس القوانين التي تتحكم في الأحداث الشخصية الخاصة، ولذلك أعتبر كتابتك نوعاً من التحليل النفسي للسياسة.
كوندايرا: إن الجوانب المتافيزيقية للإنسان واحدة سواء في حياته الخاصة أو العامة لنأخذ الموضوع الثاني في الكتاب "النسيان" سنجد أن أكبر مشكلة خاصة تواجه الإنسان هي الموت بوصفه فقدان للذات.

*روث: في الجزء السادس من "كتاب الضحك والنسيان"، وصلت بطلة الرواية الرئيسية "تامينا" إلى جزيرة لا يوجد عليها سوى الأطفال. وفي النهاية طاردوها حتى سقطة ميتة. فهل كان ذلك حلماً – حكاية شعبية – أم حكاية رمزية.
ـــ كونيرا : لا أشعر بغربة مع شئ أكثر من الحكاية الرمزية، تلك القصة التي يخترعها المؤلف لتوضيح بعض الفرضيات، لأنني أرى أن الأحداث واقعية كانت أو متخيلة، يجب أن تكون مهمة في ذاتها. أما القارئ فيجب إغواؤه في غفلة منه بما تحتويه هذه الأحداث من هيمنة وشعر. ولقد أسرتني هذه الصورة، وكانت دائمة التكرر في أحلامي : "شخص ما يجد نفسه فجأة في عالم من الأطفال، ولا يستطيع الهروب من هذا العالم.
وفجأة تتكشف أمامنا تلك الطفولة – التي طالما تغنينا وهمنا بها – في هيئة رعب خالص، فخ لا خلاص منه، أما هذه القصة ليست قصة رمزية لكن كتابي يقوم على فكرة البوليفونية -"تعدد الأصوات"- ومن خلالها يتم تفسير القصص المختلفة بشكل تبادلي بحيث تضيء وتكمل بعضها البعض. والحدث الرئيسي في "كتاب الضحك والنسيان" هو النظام الشمولي الذي يحرم الشعب من ذاكرته وهكذا يحول الأمة كلها إلى أمة من الأطفال. و كل الأنظمة الشمولية تفعل ذلك وربما عصرنا التقني يقوم بنفس الشيء بغموض المستقبل وعدم اختلاف هذا العصر عن الماضي وفقدان الثقة في الفكر. و وسط مجتمع صبياني قاس، يشعر كل ناضج مازالت لديه ذاكرة بمثل ما شعرت به  "تامينا" على جزيرة الأطفال.

*روث: في كل رواياتك، وخاصة في (كتاب الضحك والنسيان) يتم الوصول إلى حل العقدة الدرامية خلال مشاهد كبرى من الممارسة الجنسية. حتى الجزء الذي عنوانه "ماما" ليس أكثر من مشهد جنسي طويل يضم ثلاثة أوضاع مختلفة بين مقدمة وخاتمة فماذا يعني لك الجنس كروائي؟
ـ كونديرا: هذه الأيام لا يتم التعامل مع الجنس كتابو، ولذلك أصبح الوصف الجنسي المجرد والاعترافات الجنسية مثيرة للضجر.
لكن هناك أعمال تركت على آثاراً لا تروح مثل ما كتبه "د.هــ. لورانس" رغم أنه قد يبدو قديماً والتناول الشعري للفحش الذي تتسم به كتابه "هنري ميللر" وكذلك بعض المقاطع الأيروتيكية لــ "جورج باتاي".
وربما يرجع ذلك إلى تناولها الفلسفي - وليس الشعري – للجنس. أنت على حق فمعي دائماً ينتهي كل شئ بمشهد شهواني عظيم فلدي شعور بأن المشهد الذي يحتوي حباً جسدياً، يولد ضوء بارقاً يكشف جوهر الشخصيات ويلخص موقفهم في الحياة.
لقد مارس "هوجو" الحب مع "تامينا" بينما كانت تحاول يائسة أن تستعيد العطلات التي قضتها بصحبة زوجها المتوفى.
المشهد الإيروتيكي هو البؤرة التي تلتقي عندها كل موضوعات القصة حيث تتجلى الأسرار المخبوءة عميقاً.

*روث: الجزء السابع والأخير في "كتاب الضحك والنسيان" وعنوانه "الحدود " يتمحور حول الجنس تماماً، فلماذا اخترته لتنتهي به روايتك ولم تختر مثلاً الجزء السابق "الملائكة" الذي تموت فيه البطلة.
ــ كونديرا : كان موت "تامينا" - مستخدماً الاستعارة – بين ضحكات الملائكة. لكن خلال الجزء الأخير من الكتاب تتردد أصداء ضحك من نوع مخالف، ذلك النوع من الضحك الذي يسمع عندما تفقد الأشياء معناها. فهناك خط فاصل متخيل عند تجاوزه تبدو الأشياء سخيفة وبلا معنى ويسأل والشخص نفسه: أليس من العبث أن استيقظ صباحاً أذهب إلى العمل – أناضل لأجل أي شئ – انتمي إلى وطن لأنني ولدت به؟
ودائماً يعيش الإنسان بالقرب من هذا الخط الفاصل، وما أسهل أن يجد نفسه وقد انتقل للجانب الآخر. وهذا الخط موجود في كل مكان و في كل منطقة من الحياة الإنسانية بل في أكثر المناطق عمقاً وارتباطاً بنشاطه البيولوجي وهي : الممارسة الجنسية.
ولأن الجنس هو المنطقة الأعمق في حياة الإنسان، فالسؤال المتعلق به هو الأعمق.
ولهذا السبب اخترت لكتابي الحافل بالموضوعات المنوعة أن ينتهي بالجنس.

*روث : إذن هل هذه أقصى نقطة تشاؤمية وصلت إليها؟
ــ كونديرا : أتعامل بحذر مع كلمات مثل "تشاؤم" و "تفاؤل".
فالرواية لا تزعم شيئاً فقط تبحث عن الأسئلة وتطرحها لا أعرف إن كانت بلدي ستتلاشى وتختفي من خارطة العالم أم لا، ولا أعرف أي من شخصياتي على حق فأنا اخترع القصص، وأضع الواحدة في مواجهة الأخرى، وأبدأ طرح الأسئلة.
واعتقد أن غباء الناس يرجع إلى أن لديهم سؤالاً عن كل شئ فعندما خرج
"دون كيشوت" لمواجهة العالم، تمثل العالم أمام عينيه لغزاً غامضاً.
وكان ذلك الموقف بمثابة الميراث الذي تركته أول رواية أوروبية لكل التاريخ الروائي الذي تلاها، فالروائي يعلم القارئ أن يفهم العالم بوصفه سؤالاً. وثمة حكمة وتسامح في هذا الموقف، ففي عالم يقوم على تقنيات مطلقة ومقدسة تموت الرواية.
فالعالم الشمولي، قائم على الفكر الماركسي أو الإسلامي أو أية أفكار أخرى هو عالم يعتمد على الإجابات أكثر من الأسئلة. و في هذا العالم لا مكان للرواية.
ويبدو لي أن الناس في كل مكان بالعالم يفضلون إصدار الأحكام أكثر من الفهم، الإجابة أكثر من السؤال، ولذلك فمن الصعب سماع صوت الرواية وسط الجلبة الحمقاء التي تصدر عن اليقينيات البشرية.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق