السبت، 21 ديسمبر 2013

إليزابيث كوستيللو، ج.م. كويتزى، قصة







إليزابيث كوستيللو
 ثمانية دروس

                                                                                                                ج.م. كويتزى
ت: ياسر شعبان

 " إليزابيث كوستيللو ".. كاتبة ولدت عام 1928، مما يعنى أنها أتمت عامها السادس والستين وعلى مشارف العام السابع والستين. كتبت تسع روايات ومجموعتين شعريتين وكتاب عن حياة الطيور وآخر عن قواعد العمل الصحفي. أسترالية المولد، فهي مولودة فى "ملبورن" ولا زالت تعيش هناك، باستثناء الفترة من (1951 إلى 1963) والتى قضتها فى إنجلترا وفرنسا. تزوجت مرتين ولديها طفلان، واحد من كل زوج.
ولقد حققت "إليزابيث كوستيللو" شهرتها عند صدور روايتها الرابعة (منزل فى شارع إكلز) عام 1969، وكانت شخصيتها الرئيسية تُدعى "ماريون بلوم"، وهى زوجة لـ"ليبولد بلوم" وهو بدوره شخصية برواية أخرى؛ رواية (عوليس) لـ"جيمس جويس"، عام 1922. وخلال العقد الماضى نشأت حولها صناعة نقدية صغيرة، وتكوّن ما يُعرَف بـ"مجتمع إليزابيث كوستيللو" فى "البكريك" بـ"نيو مكسيكو" والتى تصدر نشرة فصلية باسمها.
وفى ربيع عام ( 1995) سافرت "إليزابيث كوستيللو"ـ أو تسافر، سأستخدم المضارع من الأن فصاعداًـ إلى "وليامزتاون" في بنسلفانيا حيث توجهت إلى كلية "ألتونا" لاستلام جائزة "ستوي" وهى جائزة تمنح كل عامين لأحد الكتاب العالميين الكبار والذى يتم اختياره بواسطة لجنة من النقاد والكتاب.
وتبلغ قيمتها المالية "خمسين ألف دولار" حسبما جاء فى وصية "ستوي"، وذلك بالإضافة إلى ميدالية ذهبية. وتعتبر هذه الجائزة من أكبر الجوائز فى الولايات المتحدة.
وخلال زيارتها لـ "بنسلفانيا" كان برفقة " إليزابيث كوستيللو"ـ " كوستيللو" لقبها قبل أن تتزوج ـ أخوها " جون" ويعمل مدرساً للفيزياء والفلك فى كلية "ماسا شوتس"، لكنه تركها لمدة عام واحد لأسباب تخصه وحده.
وكانت "إليزابيث" قد أصبحت هشة بعض الشيء، وهكذا لم تكن لتبدأ هذه الرحلة الشاقة عبر نصف العالم دون مساعدة ابنها.
... لقد قفزنا على الحكاية...
كانا قد وصلا إلى "وليامز تاون" ونقلا إلى الفندق حيث سيقيمان. وللدهشة كان بناية ضخمة بالنسبة لهذه المدينة الصغيرة، كان بناية مرتفعة ـ سداسية الأوجه ومغطاة من الخارج برخام داكن اللون ومن الداخل كان مغطى بالكريستال والمرايا.
وفى حجرتها يدور هذا الحوار: يسأل أبنها: ها ستكونين مرتاحة؟
تجيب: بالتأكيد، فالحجرة بالطابق الثانى عشر وتطل على ملعب للجولف ومن ورائه تلال خضراء.
يقول الابن وهو على وشك مغادرة الحجرة: إذن لماذا لا تستلقين قليلاً؟ سيأتون إلينا فى السادسة والنصف، وسأتصل بك قبل دقائق من موعدهم.
تقول: جون ماذا يريدون منى تحديداً؟
" الليلةـ لا شئ، مجرد عشاء بصحبة لجنة التحكيم. ولن نترك السهرة لتمتد بعد ذلك. سأذكرهم بأنك مجهدة ".
تقول: وغداً؟
" غداً الأمر مختلف. يجب أن تكونى مستعدة، أنا خائف".
تقول: نسيت لماذا وافقت على المجئ. فالأمر يبدو مثل محنة عظيمة تورطت فيها دون سبب يستحق.
كان الأفضل أن أطلب منهم التغاضى عن مسألة الاحتفال، وأرد لهم الشيك بالبريد.
.. وبعد هذه الرحلة الطويلة، بدأت تهتم بأمر عمرها.
أبداً لم تكن تهتم لمظهرها، فلقد اعتادت أن تتجاهله، أما الآن فيجب الاهتمام به.
إنها عجوز ومتعبة.
يقول الابن: "أنا خائف يا أمى، لن تكون الأمور على ما يرام هكذا. بقبولك النقود يجب أن تكونى جزءاً ن العرض."
تهز رأسها، ومازالت ترتدى معطف المطر القديم ذا اللون الأزرق والذى ارتدته عند خروجها من المطار ولشعرها مظهر زيتى وخالٍ من الحيوية. ولم تكن قد شرعت فى إفراغ الحقائب. فماذا ستفعل لو تركها الآن؟ أتستلقى وهى مازالت ترتدى معطف المطر والحذاء.
إنه هنا، معها، بدافع الحب. ولا يستطيع أن يتخيل مرورها بهذه المحنة دون أن يكون إلى جوارها إنه يساندها لأنه ابنها، ابنها المُحِب.
لكنه على وشك أن يصبح ـ يالها من كلمة مقززة ـ مُدربها؛ يراها مثل فقمة، فقمة عجوز ومتعبة فى السيرك.
ومن جديد مطلوب منها أن تقفز فى مياه حوض السباحة، ومرّة أخرى مطلوب منها إظهار مقدرتها على حِفظ إتزان الكُرة فوق أنفها، وعليه أن يلاطفها، يحنو عليها ويدخلها فى العرض.
يقول بألطف ما يستطيع: "إنهم معجبون بك، ويريدون تكريمك، وهذه أفضل طريقة ارتأونها للقيام بذلك... تقديم المال لك وإذاعة اسمك بوسائل الإعلام. وهكذا يستخدمون شيئاً لتحقيق آخر. "
.. وهى واقفة أمام منضدة كتابة تعود للعصر الإمبراطورى، تُقَلّب فى الكتيبات التى ترشدها لكيفية التسوق وأين تتناول طعامها وكيف تستخدم التليفون، إذا بها ترمقه بواحدة من نظراتها الساخرة والخاطفة والتى ماتزال قادرة مُباغتته، وذلك لتذكره مَن تكون، ترمقه وهى تغمغم " أفضل طريقة....؟ ".
في تمام السادسة يُطْرَق الباب. وهى متأهبة فى انتظاره والشكوك تملأها، لكنها استعدت لمواجهة الخصم.
إنها ترتدي ردائها الأزرق وجاكت من الحرير، وهو ماتعتبره الزى الرسمى للمرأة الروائية، بالإضافة إلى حذاء أبيض لا يعيبه شئ سوى أنه بطريقة ما يجعلها تبدو مثل البطة " ديزى ".
وكانت قد غسلت شعرها ومشطته إلى الخلف. ولا يزال يبدو زيتياً لكنه مُتشامخ، مثل شعر مَنْ يتحملون فى سلاح البحرية أو يعملون ميكانيكية ولوجهها تلك الملامح السلبية، والتى عند رؤيتها على وجه فتاة شابة ستختار الانسحاب من أمامها.وجه بلا شخصية، ذلك النوع الذى يتطلب من المصورين الكثير من العمل لمنحه هوية.
" مثل كيتس.. المدافع العظيم عن الإحساس المتعادل ".. هكذا يُفَكر الابن. ولأبعد ما يستطيع أن يتذكر كيف أن أمه كانت تعزل نفسها خلال فترة الصباح للكتابة. ولا يُسمح بالتطفل أو المقاطعة تحت أى ظرف.
واعتاد أن يفكر فى نفسه كطفل سئ الحظ، فهو وحيد وغير محبوب.
وعندما كان وأخته يشعران بالحزن لحالهما، كانا يمشيان جيئة وذهاباً خارج الفباب المغلق ؛ مُحدثين تلك الأصوات الخافته، وفى الوقت المناسب رتتحول إلى همهمة أو غناء، وهكذا كانا يشعران بتحَسُن وقد تناسيا أمر عُزلتهما.

والآن تغير المشهد، لقد كبر، لم يعد خارج الباب بل داخله، يتابعها وهى جالسة بظهرها إلى النافذة فى مواجهة الصفحة البيضاء، وهكذا يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، بينما شعرها يتحول تدريجياً من الأسود إلى الرمادى.
يالها من عنيدة.. إنها تستحق الميدالية بلا شك.
هذه الميدالية وغيرها الكثير، لشجاعتها ومثابرتها بما يفوق نداء الواجب.
... حدثَ التغير عندما بلغ الثالثة والثلاثين. وقبل بلوغه ذلك العمر لم يكن قد قرأ كلمة واحدة مما كتبت. وكان ذلك بمثابة رده عليها وانتقامه منها لاحتجازه خارج الباب المغلق.
... نبذته ولذلك نبذها.
وربما يكون قد رفض أن يقرأ ما تكتبه ليحمى نفسه. وقد يكون هذا هو الدافع الأعمق. حماية نفسه مِن البرق.
وذات يوم، ودون كلمة مِن أحد، ودون حتى أن يهمس لنفسه بكلمة، أخرج أحد كتبها مِن المكتبة. وبعدها قرأ كل شئ، قرأ طوال الوقت.. فى القطار وهو جالس إلى منضدة الغداء.
... " ماذا تـقرأ؟ "
... أحد كتب أمي.
إنه فى كتبها، أو بعض منها. كذلك تعرف على آخرين، وبالتأكيد هناك المزيد لم يتعرف عليهم.
... تكتب عن الجنس ـ العاطفة ـ الغيرة والحسد.
تكتب ببصيرة تهزه، كتابة غير محتشمة تماماً....
إنها تهزه، وهذا ما تفعله تأكيداً بالقُرّاء الآخرين كذلك. وتأكيداً ذلك سبب وجودها فى الصورة الكبرى.
يا لها من مُكافأة غريبة مقابل حياة كاملة مِن هَز الناس: أن تُنْقَل إلى " بنسلفانيا " وتمنح بعض المال.. ! لأنها لم تكن بأى حال من الأحوال كاتبة مُريحة.
كذلك هى قاسية لدرجة تجعل ميل النساء لها أكثر من الرجال.
أى كائن هى فى الحقيقة؟
أنها ليست فقمة، ليست ودودة بما يكفى لتكون كذلك، لكنها ليست سمكة قرش. ربما قِطة. واحدة من تلك القطط الضخمة التى تتوقف وهى تنزع أحشاء ضحيتها، وعبر البطن المفتوح ترمقك بنظرة صفراء باردة.
كانت هناك امرأة تنتظرهما بالأسفل، نفس المرأة التى رافقتهما من المطار.
اسمها "تريزا ".. إنها مُدرسة فى كلية ألتونا"، وبالنسبة لجائزة "ستوي" فلقد كانت بمثابة الجوكر الذى يقوم بوظائف شتى، أما بالنسبة للمهام الكبرى فهى مجرد شخص ضئيل الأهمية بمُقدمة السيارة يجلس إلى جوار "تريزا" بينما أمه تجلس فى المفعد الخلفى.
كانت " تريزا " مُثارة للغاية لدرجة أنها ثرثرت كثيراً، لتخبرهم عن الجيران الذين يمرون عليهم خلال الطريق، وعن كلية " ألتونا " وتاريخها وعن المطعم المتوجهون إليه.
ووسط كل هذه الثرثرة تُردد جملتين سريعتين لها:
( الخريف الماضى استقبلتنا  "أ.س. بيات"، ما رأيك "سيدة كوستيللو" فى "أ.س. بيات "؟)
وبعدها: ( ما رأيك "سيدة كوستيللو" فى "دوريس ليسنج"؟ إنها تؤلف كتاباً عن النساء العاملات بالكتابة والسياسة، لقد قضت أصيافها فى لندن لتكتب ما تطلق عليه "بحثاً").
وما كان ليندهش إذا اكتشف وجود جهاز تسجيل مُخبأ فى السيارة.
يصلون إلى المطعم، والمطر يَسّاقط خفيفاً.
تنزلهما "تريزا" أمام الباب، وتذهب لتركن السيارة.
وللحظة يجدا نفسيهما وحيدين على الرصيف.
يقول "ما زال بمقدورنا أن نَفِر، لم يفت الوقت بعد. نستطيع أن نركب سيارة تاكسى لتقلنا إلى الفندق حتى نجمع أغراضنا ونصل إلى المطار فى الثامنة والنصف لنلحق بأول رحلة طيران. وهكذا نختفى من المشهد فى نفس وقت وصول المدعوين."
... يبتسم وتبتسم. سيشاركان فى البرنامج الذى بالكاد يُمكن الحديث عنه.
لكن من المبهج أن يلهو المرء على الأقل بفكرة الهروب.  فالنكات ـ الأسرار ـ التعقيدات، نظرة هنا وكلمة هناك.. هى وسيلتهم للبقاء معاً أو للتباعد. وسيكون مرافقاً لها، وستكون فارسه. وسيعمل على حمايتها قدر استطاعته.
بعد ذلك سيساعدها لترتدى درعها، ويتركها فوق صهوة جوادها، ويضبط وضع الترس فى يدها، يسلمها رمحها ثم يتراجع.
وتَمّ تسليم الجائزة، وبعدها تُرِكت أمه وحدها على منبر الخطابة لتُلقى كلمتها والتى عنوانها ـ حسبما جاء فى البرنامج ـ ( ما الواقعية؟ ). لقد حان الوقت لكى تظهر إمكاناتها.
ترتدي "إليزابيث كوستيللو" نظارتها، وتستهل بـ"أيها السيدات والسادة" قبل أن تبدأ بالقراءة: ( نشرت كتابي الأول عام 1955، عندما كُنْتُ أعيش فى لندن والتى كانت العاصمة الثقافية لِكُل المخالفين. وأذكر بوضوح يوم وصول الطرد بالبريد وكان يحتوي نسخة خاصة للمؤلف. وسَرَت بجسدي رعدة عندما أمسكت الكتاب بين يدي، مطبوعاً ومُغلقاً... شيء حقيقي ولا يمكن إنكاره.
لكن كان هناك شيء يُلِحُ عليّ. وهاتفت الناشرين وسألتهم: "هل أُرْسِلت نُسخ الإيداع؟ ".
ولم أسترح حتى أكدوا لى أن نسخ الإيداع سيتم إرسالها بالبريد مساء هذا اليوم؛ إلى "سكوتلاندا ـ بودليان" وغيرهما، لكن الأهم هي النسخ التي سترسل للمتحف البريطاني.
كان ذلك أقصى طموح لديّ، أن يكون لكتبي موضع فوق رفوف المتحف البريطاني، كتفاً بكتف إلى جوار كِبار الكُتاب مثل " كارلايل ـ تشوسر ـ كولريدج ـ وكونراد ". )  
                      ............


*ج.م. كويتزى :
ـ كاتب من جنوب أفريقيا.
ـ حصل مرتين على جائزة بوكر البريطانية عن روايتيه: (عصر الحديد) و(العار).
ـ حصل عام ( 2003 ) على جائزة نوبل في الآداب.
ـ من أشهر أعماله: (عصر الحديد)، (العار)، (في قلب الريف)، (الخصم)، (المواطن مايكل ك) .......




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق