السبت، 21 ديسمبر 2013

قاتل بلا وجه، نادين جورديمر، قصة



قاتل بلا وجه

ــــــــــــــــــــــــــ

     نادين جورديمر                                                                                                                                                ترجمة : ياسر شعبان



اقرأ شفتي ، لأنني لا أتكلم . أنت تجلس هناك ، وعندما يتمايل القطار تنحني للأمام لتسمع . ولكنني لا أتكلم . لو كنت قادراً على العثور عليهم ، كنت سأطلب منهم النصف المتبقي من النقود التي وعِدتُ بالحصول عليها عند التنفيذ ، لكنهم رحلوا . ولا أعرف إلى أين أتوجه . ولا أظن أنهم ما زالوا موجودين هنا ، لابد أنهم ذهبوا إلى بلد آخر ، إنهم يتنقلون طوال الوقت وهكذا يعثرون على رجال مثلي.

فنحن نرحل عن الوطن لأن الحكومات يُطاح بها ، فنجد أنفسنا في الجانب الخاطئ ؛ بلا عمل – بلا خبز أو زيت في الدكاكين ، وعندما نعبر حداً نجد أنفسنا في مواجهة حد آخر وآخر .

ما وجهتك النهائية ؟ ولا نعرف إجابة ، لا نعرف أين نستطيع المكوث ، وما إذا كنا سَنُرسَل إلى مكان آخر أم لا ، من مخيم إلى آخر في بلد لن تستطيع فيه الحصول على أية أوراق .

ولا أتكلم مطلقاً .

وهناك يجدونا ، في واحدة من تلك الأماكن ، وجدوني وأنقذوني ، كان في وسعهم القيام بأي شيء ، جاءوا بي إلى هنا وزودوني بالأوراق ومنحوني اسماً ، ودفنت اسمي داخلي حيث لن يستطيع أحد إخراجه .

وأخبروني بالمطلوب تنفيذه ودفعوا لي نصف المبلغ المتفق عليه . تناولت الطعام واشتريت ملابس واستأجرت حجرة في واحد من تلك الفنادق حيث يقرأ الناس قائمة الطعام خارج ثلاثة مطاعم قبل أن يقرروا أين سيتناولون طعامهم .

وكان هناك " شامبو " بالمجان في الحمام ، ومفتاح للخزانة التي يُحفظ الشراب داخلها بدلاً من النقود .

كانوا قد جهزوا كل شيء لي . فلقد تبعوه طوال شهور ، وعرفوا مواعيده والأماكن التي يذهب إليها ، فرغم أنه كان رجلاً مهماً كان يفضل الخروج برفقة زوجته في خصوصية ، دون أن يرافقه الحراس ، لأنه أحب التظاهر بأنه شخص عادي .

وعرفوا أنه لم يفهم أن سلوكه مستحيل ، وجعلهم موقفه هذا يدفعون لي لتنفيذ ما طلبوه مني .

وأنا لا أحد ، وليس من بلد يحسبني ضمن تعداده السكاني ، فالاسم الذي أعطوه لي لا وجود له: وهكذا فليس من أحد مسئول عما تم تنفيذه .

كان يقتطع بعض الوقت ، ويخرج برفقة زوجته إلى مطعم ذي أبواب مزدوجة للوقاية من برودة الطقس ، وهو نفس المطعم الذي اعتادا الذهاب إليه أسبوعاً بعد آخر ، وبعد ذلك – رغم أنهم أخبروني أنهما يعودان للبيت – فلقد توجها إلى السينما . وانتظرت . تناولت كوب بيرة من احد البارات، ثم عدت أدراجي .

ولم يُظهِر الناس الخارجون من السينما أنهم قد تعرفوا عليه ، وذلك لأن الناس في هذا البلد يحبون أن يدعوا قادتهم يبدون عاديين .

واصطحب زوجته ، مثل أي مواطن عادي ، إلى ذلك الركن حيث المدخل إلى مترو الأنفاق، عندئذ وأثناء وقوفه ليسمح بمرورها أمامه ؛ نفذت مهمتي .

فعلت فقط ما دفعوا لي للقيام به ، بعدما اختبروا قدرتي على الرماية ، وأطلقت النار مباشرة على مؤخرة جمجمته . وأثناء سقوطه ، وأثناء التفافي لأجري ، فعلتها ثانيةً – حسبما كلفوني – للتأكد من موته .

وارتكبت خطأ السقوط على ركبتيها فوق جسده ، وذلك قبل أن تتطلع لرؤية من فعل ذلك .

وهكذا فإن كل ما قالته للبوليس والصحافة وفي التحقيق ؛ أنها رأت ظهر رجل في ملابس سوداء ؛ جاكيت جلدي ؛ يقفز فوق درجات السلم التي تؤدي إلى الشارع الجانبي . وكانت المدينة تتميز بالمباني الشاهقة والأزقة المظلمة الضيقة . ولم ترَ وجهي مطلقاً .

وبعد سنوات الآن ( كما قرأت في الصحف ) داومت على إخبار الناس كيف أنها لم ترَ الوجه ، أبداً لم ترَ وجه الفاعل . وإذا كانت قد نظرت إلى أعلى لثوانٍ فقط ، كانوا سيتمكنون من العثور علي ، وهكذا أصبح أنا ذلك الشخص المجهول .

وظلت طوال الوقت تفكر في مؤخرة رأسي في القبعة السوداء . ( حقيقة لم تكن سوداء ، بل كانت عبارة عن مربعات بنية وخضراء ، كانت قبعة غالية الثمن اشتريتها من النقود التي دفعوها لي ، وبعد ذلك ألقيتها في قناة مائية وبداخلها حجر ) .

وفكرت في عنقي ، تلك البقعة الصغيرة التي تمكنت من رؤيتها بين القبعة وياقة الجاكيت الجلدي ( ولم أستطع إلقاءه في القناة ، واكتفيت بصبغه ) . وظلت تفكر في بريق الجاكيت الجلدي عند كتفي إثر سقوط شعاع ضوء من أحد المصابيح فوق أحد الأسطح ، وكنت أعدو سريعاً حتى اختفيت بينما كانت تصرخ .

وقبض البوليس على أحد مدمني المخدرات ، أمسكوا به في نفس الزقاق عند قمة السلالم المؤدية إليه . ولم تستطع أن تحدد ما إذا كان هو القاتل أم لا ، لأنه لم يكن له وجه لتتذكره .

وحدث الشيء نفسه  مع كل من ألقى البوليس القبض عليه من الشوارع وحسب السجلات الإجرامية والقضايا السياسية ، فلم يكن هناك وجه . ولذلك لم يكن هناك ما أخشاه .

فطوال الوقت عندما كنت أُدفَع للفرار من بلد إلى آخر كنت في خوف دائم ، خوف من عدم حيازتي للأوراق ، خوف من التعرض للتحقيق ، خوف من الجوع ، أما الآن فليس من شيء يخيفني . وما زلت لا أخاف من شيء . ولا أتكلم .

وتابعت الصحف لمعرفة ما تكتبه عما يحدث ، وعرفت أن التحقيق لم يُغلَق ومازال البوليس والناس والبلد كله مستمرين في البحث .

وقرأت كل النظريات المفسرة للحادث ، وأحياناً – مثل الآن – أثناء ركوبي لمترو الأنفاق أَطلع على نظرية جديدة بظهر صحيفة بيد أحد الركاب .

كانت حبكة إيرانية ، بسبب ذلك العداء بين هذا البلد وتلك الحكومة هناك . محاولة جنوب إفريقية للانتقام من العقوبات المفروضة على حكومة عِرقية .

بوسعي أن أقول من ارتكب هذا الحادث ، لكنني لن أستطيع أن أقول لماذا . فعندما دفعوا لي نصف المبلغ المحدد كمقابل لم يخبروني عن الدافع ولم أسأل . فلماذا يجب أن أسأل عن الحكومة وبأي جانب ، وفي أي مكان ، كل ذلك سيورطني . فلقد كانوا وحدهم القادرين على تقديم أي شيء لي .

وعندئذ حصلت على نصف المبلغ الذي وعدوني به . ولم يتبق منه الكثير بعد مرور خمس سنوات ، ستتم خمس سنوات الشهر المقبل .

وهكذا بدأت أقوم ببعض الأعمال ، بين الحين والآخر ، وهكذا لم يتساءل أحد عن مصدر المال الذي أدفع منه إيجار حجرتي وغير ذلك من النفقات .

عملت في حلبة سباق ، ولمرة أو مرتين عملت في نوادٍ ليلية . ولم تكن تلك الأماكن تقوم بتسجيل العاملين بها في مكتب العمل .

وما شغلني هو ماذا سأفعل بالمال عندما أحصل على بقية المبلغ المتفق عليه ، كما وعدوني ؟

هل أرحل إلى مكان آخر ؟

وعندما أفكر في الانتقال إلى بلد آخر ، كما فعلوا ، حيث أُخرِج عند الحدود الأوراق وأذكر الاسم – الذي لا يخص أحد – الذي أعطوه لي ، وأكشف وجهي .

أنا لا أتكلم .

لا أتكلم مع أي شخص . ولا حتى امرأة .

وفي الأماكن التي عملت بها ، كنت أتلقى عروضاً للقيام بأشياء ، مثل نقل بضائع مسروقة أو نقل مخدرات ، فلقد بدا الأمر وكأن الناس يستشعرون بطريقة ما أنني جعلت نفسي متاحاً . لكنني لست كذلك .. ! لست كذلك هنا ، في هذه المدينة .

فهذه المدينة لن تر وجهي مطلقاً ، فقد رأت ظهر رجل يقفز فوق درجات السلم المؤدي إلى الزقاق القريب من محطة مترو الأنفاق .

وأعرف ما يقال عن عودة المجرم إلى مكان جريمته . لكنني لم أقترب منه ، لم أتجاوز محطة مترو الأنفاق . لم أعد مطلقاً إلى تلك السلالم .

فعندما صرخت خلفي أثناء هروبي ، كنت في طريقي للاختفاء ؛ الاختفاء إلى الأبد .

ولم أستطع أن أصدق ما قرأته عن أنهم لم يدفنوه في مقبرة . وضعوه في ذلك الجزء من الحديقة العامة ؛ المقابل للكنيسة المجاورة لمحطة مترو الأنفاق .

كان مكاناً عادياً ، يوجد به القليل من الأشجار العجوز التي تقطر منها مياه الأمطار على الممرات المغطاة بالحصى ، ومنها إلى الشارع الرئيسي مباشرة .

كان هناك شاهد حجري وسياج منخفض ، وذلك كل شيء .

وكان الناس يأتون وقت الغذاء وأثناء خروجهم للتسوق ، يخرجون من محطة مترو الأنفاق أو يخرجون من السينما ، ويتسكعون عبر الممرات التي يغطيها الحصى ليقفوا أمام المكان الذي دفن به ، ويضعوا الزهور عليه .

تواجدت هناك ورأيت ذلك . لم أفر ، فلقد كان مكاناً مثل غيره من الأماكن بالنسبة لي . وفي كل مرة أذهب إلى هناك ، خلف الآخرين ، ماشياً فوق الحصى الذي يغطي الممر ، كنت أرى حتى الشباب الصغار ينتحبون وهم يضعون زهورهم وأحياناً يضعون صفحات ورقية بدت كما لو كانت تحمل سطوراً من قصائد ( ولم يكن بوسعي أن أقرأ هذه اللغة جيداً ) ، ورأيت كذلك أن التحقيق مازال مستمراً ، وأنه لن ينتهي حتى يجدوا الوجه ، حتى يستدير هذا اللا – أحد . ولن يحدث كل ذلك أبداً .

والآن أفعل ما يفعله الآخرون . فتلك هي الطريقة يظل المرء في أمان ، في أمان تام .

واليوم اشتريت صحبة رخيصة من الزهور الحمراء ؛ مربوطة بضمادة جروح مرنة ملفوفة بين الأوراق المسحوقة والأشواك الطرية ، ووضعتها هناك ، أمام الشاهد الحجري ، خلف السياج        المنخفض ، حيث دفن اسمي مع جثمانه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق