قاتل
بلا وجه
ــــــــــــــــــــــــــ
نادين
جورديمر ترجمة : ياسر شعبان
اقرأ شفتي ، لأنني لا أتكلم . أنت تجلس هناك ،
وعندما يتمايل القطار تنحني للأمام لتسمع . ولكنني لا أتكلم . لو كنت قادراً على
العثور عليهم ، كنت سأطلب منهم النصف المتبقي من النقود التي وعِدتُ بالحصول عليها
عند التنفيذ ، لكنهم رحلوا . ولا أعرف إلى أين أتوجه . ولا أظن أنهم ما زالوا
موجودين هنا ، لابد أنهم ذهبوا إلى بلد آخر ، إنهم يتنقلون طوال الوقت وهكذا
يعثرون على رجال مثلي.
فنحن نرحل عن الوطن لأن الحكومات يُطاح بها ،
فنجد أنفسنا في الجانب الخاطئ ؛ بلا عمل – بلا خبز أو زيت في الدكاكين ، وعندما
نعبر حداً نجد أنفسنا في مواجهة حد آخر وآخر .
ما وجهتك النهائية ؟ ولا نعرف إجابة ، لا نعرف
أين نستطيع المكوث ، وما إذا كنا سَنُرسَل إلى مكان آخر أم لا ، من مخيم إلى آخر
في بلد لن تستطيع فيه الحصول على أية أوراق .
ولا أتكلم مطلقاً .
وهناك يجدونا ، في واحدة من تلك الأماكن ، وجدوني
وأنقذوني ، كان في وسعهم القيام بأي شيء ، جاءوا بي إلى هنا وزودوني بالأوراق
ومنحوني اسماً ، ودفنت اسمي داخلي حيث لن يستطيع أحد إخراجه .
وأخبروني بالمطلوب تنفيذه ودفعوا لي نصف المبلغ
المتفق عليه . تناولت الطعام واشتريت ملابس واستأجرت حجرة في واحد من تلك الفنادق
حيث يقرأ الناس قائمة الطعام خارج ثلاثة مطاعم قبل أن يقرروا أين سيتناولون طعامهم
.
وكان هناك " شامبو " بالمجان في الحمام
، ومفتاح للخزانة التي يُحفظ الشراب داخلها بدلاً من النقود .
كانوا قد جهزوا كل شيء لي . فلقد تبعوه طوال شهور
، وعرفوا مواعيده والأماكن التي يذهب إليها ، فرغم أنه كان رجلاً مهماً كان يفضل
الخروج برفقة زوجته في خصوصية ، دون أن يرافقه الحراس ، لأنه أحب التظاهر بأنه شخص
عادي .
وعرفوا أنه لم يفهم أن سلوكه مستحيل ، وجعلهم
موقفه هذا يدفعون لي لتنفيذ ما طلبوه مني .
وأنا لا أحد ، وليس من بلد يحسبني ضمن تعداده
السكاني ، فالاسم الذي أعطوه لي لا وجود له: وهكذا فليس من أحد مسئول عما تم
تنفيذه .
كان يقتطع بعض الوقت ، ويخرج برفقة زوجته إلى
مطعم ذي أبواب مزدوجة للوقاية من برودة الطقس ، وهو نفس المطعم الذي اعتادا الذهاب
إليه أسبوعاً بعد آخر ، وبعد ذلك – رغم أنهم أخبروني أنهما يعودان للبيت – فلقد
توجها إلى السينما . وانتظرت . تناولت كوب بيرة من احد البارات، ثم عدت أدراجي .
ولم يُظهِر الناس الخارجون من السينما أنهم قد
تعرفوا عليه ، وذلك لأن الناس في هذا البلد يحبون أن يدعوا قادتهم يبدون عاديين .
واصطحب زوجته ، مثل أي مواطن عادي ، إلى ذلك الركن
حيث المدخل إلى مترو الأنفاق، عندئذ وأثناء وقوفه ليسمح بمرورها أمامه ؛ نفذت
مهمتي .
فعلت فقط ما دفعوا لي للقيام به ، بعدما اختبروا
قدرتي على الرماية ، وأطلقت النار مباشرة على مؤخرة جمجمته . وأثناء سقوطه ،
وأثناء التفافي لأجري ، فعلتها ثانيةً – حسبما كلفوني – للتأكد من موته .
وارتكبت خطأ السقوط على ركبتيها فوق جسده ، وذلك
قبل أن تتطلع لرؤية من فعل ذلك .
وهكذا فإن كل ما قالته للبوليس والصحافة وفي
التحقيق ؛ أنها رأت ظهر رجل في ملابس سوداء ؛ جاكيت جلدي ؛ يقفز فوق درجات السلم
التي تؤدي إلى الشارع الجانبي . وكانت المدينة تتميز بالمباني الشاهقة والأزقة
المظلمة الضيقة . ولم ترَ وجهي مطلقاً .
وبعد سنوات الآن ( كما قرأت في الصحف ) داومت على
إخبار الناس كيف أنها لم ترَ الوجه ، أبداً لم ترَ وجه الفاعل . وإذا كانت قد نظرت
إلى أعلى لثوانٍ فقط ، كانوا سيتمكنون من العثور علي ، وهكذا أصبح أنا ذلك الشخص
المجهول .
وظلت طوال الوقت تفكر في مؤخرة رأسي في القبعة
السوداء . ( حقيقة لم تكن سوداء ، بل كانت عبارة عن مربعات بنية وخضراء ، كانت
قبعة غالية الثمن اشتريتها من النقود التي دفعوها لي ، وبعد ذلك ألقيتها في قناة
مائية وبداخلها حجر ) .
وفكرت في عنقي ، تلك البقعة الصغيرة التي تمكنت
من رؤيتها بين القبعة وياقة الجاكيت الجلدي ( ولم أستطع إلقاءه في القناة ،
واكتفيت بصبغه ) . وظلت تفكر في بريق الجاكيت الجلدي عند كتفي إثر سقوط شعاع ضوء
من أحد المصابيح فوق أحد الأسطح ، وكنت أعدو سريعاً حتى اختفيت بينما كانت تصرخ .
وقبض البوليس على أحد مدمني المخدرات ، أمسكوا به
في نفس الزقاق عند قمة السلالم المؤدية إليه . ولم تستطع أن تحدد ما إذا كان هو
القاتل أم لا ، لأنه لم يكن له وجه لتتذكره .
وحدث الشيء نفسه مع كل من ألقى البوليس القبض عليه من الشوارع
وحسب السجلات الإجرامية والقضايا السياسية ، فلم يكن هناك وجه . ولذلك لم يكن هناك
ما أخشاه .
فطوال الوقت عندما كنت أُدفَع للفرار من بلد إلى
آخر كنت في خوف دائم ، خوف من عدم حيازتي للأوراق ، خوف من التعرض للتحقيق ، خوف
من الجوع ، أما الآن فليس من شيء يخيفني . وما زلت لا أخاف من شيء . ولا أتكلم .
وتابعت الصحف لمعرفة ما تكتبه عما يحدث ، وعرفت
أن التحقيق لم يُغلَق ومازال البوليس والناس والبلد كله مستمرين في البحث .
وقرأت كل النظريات المفسرة للحادث ، وأحياناً –
مثل الآن – أثناء ركوبي لمترو الأنفاق أَطلع على نظرية جديدة بظهر صحيفة بيد أحد
الركاب .
كانت حبكة إيرانية ، بسبب ذلك العداء بين هذا
البلد وتلك الحكومة هناك . محاولة جنوب إفريقية للانتقام من العقوبات المفروضة على
حكومة عِرقية .
بوسعي أن أقول من ارتكب هذا الحادث ، لكنني لن
أستطيع أن أقول لماذا . فعندما دفعوا لي نصف المبلغ المحدد كمقابل لم يخبروني عن
الدافع ولم أسأل . فلماذا يجب أن أسأل عن الحكومة وبأي جانب ، وفي أي مكان ، كل
ذلك سيورطني . فلقد كانوا وحدهم القادرين على تقديم أي شيء لي .
وعندئذ حصلت على نصف المبلغ الذي وعدوني به . ولم
يتبق منه الكثير بعد مرور خمس سنوات ، ستتم خمس سنوات الشهر المقبل .
وهكذا بدأت أقوم ببعض الأعمال ، بين الحين والآخر
، وهكذا لم يتساءل أحد عن مصدر المال الذي أدفع منه إيجار حجرتي وغير ذلك من
النفقات .
عملت في حلبة سباق ، ولمرة أو مرتين عملت في
نوادٍ ليلية . ولم تكن تلك الأماكن تقوم بتسجيل العاملين بها في مكتب العمل .
وما شغلني هو ماذا سأفعل بالمال عندما أحصل على
بقية المبلغ المتفق عليه ، كما وعدوني ؟
هل أرحل إلى مكان آخر ؟
وعندما أفكر في الانتقال إلى بلد آخر ، كما فعلوا
، حيث أُخرِج عند الحدود الأوراق وأذكر الاسم – الذي لا يخص أحد – الذي أعطوه لي ،
وأكشف وجهي .
أنا لا أتكلم .
لا أتكلم مع أي شخص . ولا حتى امرأة .
وفي الأماكن التي عملت بها ، كنت أتلقى عروضاً
للقيام بأشياء ، مثل نقل بضائع مسروقة أو نقل مخدرات ، فلقد بدا الأمر وكأن الناس
يستشعرون بطريقة ما أنني جعلت نفسي متاحاً . لكنني لست كذلك .. ! لست كذلك هنا ،
في هذه المدينة .
فهذه المدينة لن تر وجهي مطلقاً ، فقد رأت ظهر
رجل يقفز فوق درجات السلم المؤدي إلى الزقاق القريب من محطة مترو الأنفاق .
وأعرف ما يقال عن عودة المجرم إلى مكان جريمته .
لكنني لم أقترب منه ، لم أتجاوز محطة مترو الأنفاق . لم أعد مطلقاً إلى تلك
السلالم .
فعندما صرخت خلفي أثناء هروبي ، كنت في طريقي
للاختفاء ؛ الاختفاء إلى الأبد .
ولم أستطع أن أصدق ما قرأته عن أنهم لم يدفنوه في
مقبرة . وضعوه في ذلك الجزء من الحديقة العامة ؛ المقابل للكنيسة المجاورة لمحطة
مترو الأنفاق .
كان مكاناً عادياً ، يوجد به القليل من الأشجار
العجوز التي تقطر منها مياه الأمطار على الممرات المغطاة بالحصى ، ومنها إلى
الشارع الرئيسي مباشرة .
كان هناك شاهد حجري وسياج منخفض ، وذلك كل شيء .
وكان الناس يأتون وقت الغذاء وأثناء خروجهم
للتسوق ، يخرجون من محطة مترو الأنفاق أو يخرجون من السينما ، ويتسكعون عبر
الممرات التي يغطيها الحصى ليقفوا أمام المكان الذي دفن به ، ويضعوا الزهور عليه .
تواجدت هناك ورأيت ذلك . لم أفر ، فلقد كان
مكاناً مثل غيره من الأماكن بالنسبة لي . وفي كل مرة أذهب إلى هناك ، خلف الآخرين
، ماشياً فوق الحصى الذي يغطي الممر ، كنت أرى حتى الشباب الصغار ينتحبون وهم
يضعون زهورهم وأحياناً يضعون صفحات ورقية بدت كما لو كانت تحمل سطوراً من قصائد (
ولم يكن بوسعي أن أقرأ هذه اللغة جيداً ) ، ورأيت كذلك أن التحقيق مازال مستمراً ،
وأنه لن ينتهي حتى يجدوا الوجه ، حتى يستدير هذا اللا – أحد . ولن يحدث كل ذلك
أبداً .
والآن أفعل ما يفعله الآخرون . فتلك هي الطريقة
يظل المرء في أمان ، في أمان تام .
واليوم اشتريت صحبة رخيصة من الزهور الحمراء ؛
مربوطة بضمادة جروح مرنة ملفوفة بين الأوراق المسحوقة والأشواك الطرية ، ووضعتها
هناك ، أمام الشاهد الحجري ، خلف السياج
المنخفض ، حيث دفن اسمي مع جثمانه
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق