المثقف
و الحرية
إدوارد سعيد
ترجمة: ياسر شعبان
هل
قدر المفكر الأمريكي الجنسية الفلسطيني الأصل (إدوارد سعيد) أن يعاني دائماً من
حالة المنفي، ومن حالة التواجد على الجانب الأخر . ففي أمريكا لا ينسى أحد أنه
فلسطيني عربي ، وفي فلسطين والدول العربية يراه الناس بوصفه مفكراً أمريكياً وهو يسعى للتواصل مع
الناس دون أن يخفي موقفه لأنه يرى أن دور المثقف هو محاولة استعادة السيطرة على
اللغة ليقدم خطاباً غير مكرر ينحاز إلى الإنسان في صراعه من أجل الحرية. هذه بعض
الأفكار التي يناقشها (إدوارد سعيد) في حوار أجرته معه (جوان سميث) ونشرته صحيفة
الجارديان.
......................................
ـــ يسعدني أن أرحب بـ"البروفيسور إدوار سعيد" من جامعة كولومبيا. وأود أن أبدأ الحديث حول
كتابك "تأملات في المنفى– ومقالات ثقافية وأدبية أخرى"، فهذا الكتاب
يضم أعمالاً كتبت خلال ثلاثة عقود، فهل عندما جمعتها معاً وجدت أنك غير متفق مع
نفسك في فترة كنت فيها أصغر من الآن؟
إ. سعيد: نعم- كذلك لم أصدق أنني كتبت هذه الثرثرة وشعرت بعدم اتفاق ودهشة من اهتمامي
بموضوع ما، ورغبت في العودة إلى الماضي لتغيير هذا الاهتمام.. يالها من لحظة
قاسية.
ـــ لكنك فعلياً.. لم
تعد كتابة أي من هذه الأجزاء؟
إ. سعيد:
إعادة كتابة كاملة، لا لم أفعل، لكنني أجريت الكثير من التغيرات الجذرية.
وأعتقد بطريقة أو أخرى
أنني حسنت من هذه الأجزاء.
ـــ ما هي السمات التي
قررت على أساسها الشكل النهائي للكتاب؟
إ.سعيد:
السمة الرئيسية هي أن أجعل موضوعات الكتاب أوضح . فأنا أعتقد أن أسلوب كتابتي قد
شهد طفرة، فلقد حاولت طوال سنوات أن اكتب لجماهير اكبر وليس لعدد محدود. وحاولت
قدر استطاعتي أن استبعد الإشارة إلى المراجع الأكاديمية واستخدام مصطلحات متخصصة .
استبعدت مصطلحات كانت شائعة جداً في ذلك الوقت. في سنوات كان الناس مولعين
بالمؤلفين الفرنسيين وما إلى ذلك.
ــــ ثمة جملة قالها قاضٍ
أمريكي يُدعى ليرند هاند"، أنا معجبة بها، فلقد قال: "روح الحرية هي
الروح التي ليست متيقنة أنها على صواب" .
إ. سعيد:
بالتأكيد– الشكوكية قبل كل شئ، فغالباً ما أجد نفسي أعيد تقييم ما أقول، وهكذا
أحاول أن أحافظ على كفاءتي والتخلي عن التردد والدوران حول الموضوع. لكنني دائماً أظل متشككاً. وليس الكتاب الذين أعجب بهم ممن يحتفون أو
يعلنون تأييدهم للحقائق التي لا تموت، بل ممن يخالفون توقعات الناس، مثل (سويفت Swift)– وأحمل له
إعجاباً خاصاً– أو (كونراد Conrad) حيث- في كتابته
ما يبدو واضحاً ليس كذلك لأنه محاط بالشك وعدم اليقين حول ما تراه ويعجبني ذلك
كثيراً.
ـــ إذن أنت لست مع
السياق المتماسك بوصفه قيمة مطلقاً؟
إ. سعيد: لقد تعرضت للنقد كثيراً بسبب غياب التماسك عن كتابتي. وفي هذا الصدد
أذكر إحدى المراجعات الطويلة المهمة– علمتني الكثير – عن كتابي (الاستشراق) .
قالت المراجعة بأنني غير متماسك السياق، لأنني كنت أحاول التوحيد بين النزعة
الإنسانية والنظرية، انطلاقاً من الفكرة القائلة بأنك لا تستطيع أن تفعل ذلك.
أبديت استجابة في
الوقت الذي كان فيه عدم التماسك سمة مهمة جداً، لأنني أكره الأنظمة والحتمية، وبدا
لي أن الهدف الرئيس إنما هو مقاومتها.
ـــ هناك نوع من الفكر
الثقافي الحالي يقول بأنه إذا ضبطت شخصاً متلبساً – بوجود قطعة تخالف شيئاً كتبته
من عشرين عاماً – فإنك بذلك تحقق شيئاً من التميز.
إ. سعيد: في الحقيقة لست مهتماً بذلك.. فثمة تماسك أخر وجدته في كتابات آخرين مثل
"كونراد" وهذا هو ما اهتم به. هناك دائماً عودة إلى شئ. فعند
"كونراد" يتمثل ذلك في المواقف المتطرفة، مواقف العزلة المفرطة، والشك.
وأثناء تحضيري لهذه
المجموعة بدا لي أن ثمة تماسكاً من نوع ما، يتمثل في عدد من الموضوعات التي ظللت
مخلصاً لها.
قد تكتب عن موضوعات
مختلفة، لكن في الواقع تركز على نفس الأشياء في مختلف الأوقات والمواقف.
ـــ أحد الأشياء التي
أدهشتني في الكتاب هي أنني دائماً لم أكن قادرة على تجاوز تاريخ كتابة المقالات. وعلى الأقل يشير ذلك إلى
اقتراب ما من فكرة التماسك السياقي.
إ. سعيد: هناك مقالات مرتبطة بمواقف محددة، مثل المقالات عن علاقتي بمصارعة الثيران،
وقد كانت هذه مرحلة في حياتي أفضل أن أنسى بعض شخوصها.
كانت فترة حماس في
الستينات، عندما تبعت بعض مصارعي الثيران في أنحاء أسبانيا، وفي هذه الحالة ليس
لمثل هذا الموقف وجود الآن.
ـــ استشعر أن هناك
انفتاحاً متنامياً لمقالاتك على المستجدات مثل النسوية Feminism التي على سبيل
المثال– لم تكن بالضرورة ضمن اهتماماتك الرئيسية عندما بدأت الكتابة عنها. كذلك
يتضح أكثر في كتابتك ذلك الشعور بالنساء بوصفهن جمهوراً صامتاً.
إ. سعيد :
بلا شك لقد تأثرت جداً بظهور حركة نسائية في الستينات. ولا تنسى أنني طوال حياتي
كنت أذهب إلى مدارس للبنين، حتى الجامعة التي التحقت بها (برينستون) مازلت أذكرها
بوصفها مدرسة للبنين لأنها بالفعل كانت اقرب إلى مدرسة إعدادية للشباب المراهقين.. والنساء فلقد كن ممنوعات. لم يكن مسموحاً لهن بالتواجد في الحرم الجامعي إلا
لأمهات الطلبة. ولا أريد أن أسهب في سرد التفاصيل حول حياة العزوبية في تلك الفترة
، كانت موحشة وقاسية. في تلك الأيام كان علينا أن نقطع مسافات طويلة إلى نيويورك
،لنتمكن من دخول كليات النساء. وهكذاـــ في العالم الذي نشأت فيه وتعلمت ، كانت فكرة
التعامل مع النساء بوصفهن مثقفات، كاتبات ومن الجماهير، كانت مرفوضة كلية .
ــ واحدة من أكثر
مقالات الكتاب تشويقاً تلك المقالة عن إحدى الراقصات.
إ. سعيد:
نعم- عن "تحية كاريوكا" وأعتقد أنها أعظم راقصة رايتها في حياتي، فأنا أحب
الرقص كشكل من الفن. لقد غيرت بشكل كلي الطريقة التي كان ينظر بها إلي الرقص..
وجميع من جئن بعدها فشلن في تحقيق ذلك، حتى (سوزان فاريل) – هكذا أعتقد.
شئ آخر عن "تحية
كاريوكا" أنها كانت نجمة سينمائية. ولقد رأيتها مرة واحدة وهي ترقص في إحدى
الحفلات، وهذه المرة التي أتحدث عنها، كانت بيننا مسافة كبيرة ، وكنت صبياً في
الرابعة عشرة أعاني من كبت رهيب، وبدت لي ممثلة لكل نمط ممكن – وغير ممكن – من الخبرة الإيروسية التي
يستطيع الواحد الحصول عليها.
ــ هذا ما تدعوه
النسويات بــ "خبرة الآخر".
إ. سعيد: حسناً، نعم بنوع من الاستبعاد والمهانة. كانت هي الآخر بشكل كلي. لقد زرعت
البذرة في رأسي، واحتجت إلى بعض الوقت لأعرفها، ولقد حدث ذلك بعد أربعين عاماً
من أول مرة رأيتها فيها، عندما عدت إلى مصر. لكنها لم تكن تماماً نفس الشخص الذي
رأيته فوق المسرح. لقد أصبحت مخلوقاً مختلفاً بشكل خيالي. ففي شبابها كانت في
غاية النشاط سياسياً وظهرت في أحد أفلام (يوسف شاهين) عن حياته في الإسكندرية ،
كزعيمة لفنانين مضربين عن الطعام. ومنذ عشرين سنة ذهبت إلى اليونان لتقوم بالرقص
من أجل اللاجئين العائدين إلى فلسطين.
ولقد ذهب كثير من فناني
وكتاب العالم العربي إلى اليونان ليركبوا نفس هذا القارب: ولم ينجحوا في الخروج
من "أثينا" أبداً. وعندما رأيتها في نهاية الثمانينات ، كانت قد أصبحت
شديدة التدين، كذلك كانت ثلاثة أضعاف حجمها ، كانت خليطاً فريداً من الزوجة
الدافئة والمرأة المسلمة التقية الورعة. خليطاً لا يمكن مقاومته، لأنك تشعر أن
كلتيهما يعني– بطريقة ما – شيئاً أخر.
ــ لقد كتبت كذلك عن
ذكرياتك كطفل صغير يشاهد أفلام "طرزان"، ويبدو هذا المقال مفارقاً
لبقية مقالات الكتاب.
إ. سعيد: نعم بطريقة ما– لكنه جزء من اهتمامي بتصنيع الغرائبية ، وذلك عند إدراك أن
(إدجار رايس بوروس) مولود في كاليفورنيا ولم يذهب أبدا إلى أفريقيا وأن كل الأفلام
تمت صناعتها في فلوريدا. ولقد قرأت كل كتب "طرزان" وتبين لي أنها
مختلفة عن بعضها تمام الاختلاف.
ولقد تخيل
"بوروس" شخصية طرزان كارستقراطي إنجليزي (لورد جراي ستوك)، بينما قدمت
هولويد طرزان كرجل بدائي بريء.
ولقد أدى
"وايزمان" – بطل سباحة سابق – دور طرزان ببراعة، واستخدام في حديثه
جملاً بسيطة من كلمات أحادية المقطع.
بينما تخيل
"بوروس" أن "طرزان" قام بتعليم نفسه ، وتحدث مستخدماً جملاً
طويلة معقدة، ويعرف الكثير عن "كانط
وهيجل" وهكذا – حسب – "بوروس"– كان اللورد "جراي ستوك"
يرتحل بين بلاد العالم، وكان خبيراً بالنبيذ، لكن عندما دخل الغابة، خلع ملابسه
وأصبح "طرزان".
كنت مبهوراً بالطريقة
التي تتغير وتختلف بها الأسطورة عندما تدون، وكيف تصبح لها حيوات مختلفة ومتعددة.
يالــ"وايزمان" العجوز المسكين، كان بطلي العظيم وكم تُقت لأصبح مثله، وقد أنهى حياته مشرفاً على مسبح جامعة
فلوريدا الذي كان سبب شهرته.
ـــ المقال إذن يعكس
التباين في حياتك، فلقد كنت صبياً مولوداً في فلسطين يعيش في مصر، وله جنسية
أمريكية، ويذهب إلى مدارس إنجليزية، ويشاهد أفلاماً أمريكية عن أفريقيا.
إ. سعيد: حقيقة لم أدرك لفترة طويلة أنني كنت أعيش في أفريقيا، فأنت لا تفكرين في الأمر بمثل هذه الطريقة.
ــ مقالك عن
"المنفى" من أكثر مقالات الكتاب تأثيراً، ويبدو لي أن كل هذه التجارب
كانت إعداداً لمواجهة المنفى، لأنها كانت بمثابة خليط ثقافي.
إ. سعيد
: ليست مجرد خليط ثقافي فقط. سأعود مرة أخرى إلى "طرزان" الذي بدا
وكأنه لم يأت من أي مكان، فهو ليس إفريقياً، والفيلم ذو نزعة عرقية رهيبة، لأن
الشخصيات الإفريقية فيه كانت إما حمالين أو برابرة متوحشين يقتلهم
"طرزان" دون تردد قبل العشاء، و"طرزان" نفسه غير مسئول عن
ذلك.
وما لفت انتباهي أن
هذه الأفلام في حقيقة الأمر كانت عن حيوان
هائم وليست عن بطل مذهل. هناك شئ مثير للشجن والشفقة بشأنه، شئ يتماس معي بطريقة
طريفة نوعاً ما.
ــ لقد اقتبست جملة لــ"جونتر جراس" في كتابك: "أزمة مثقف بلا تفويض". وهذه الجملة
أثارت اهتمامي، لأنك فرض عليك تفويض لم تختره ، كذلك ثمة لمحة مهمة في كلامك عن
التناقض الموروث بين إيمان المثقف وبين ولائه العاطفي إلى القبيلة، الطائفة،
والوطن ، فأنت تقول "لم أشعر مطلقاً بحاجة
إلى إغلاق الفجوة لكنني أثرت أن أتركهما كمتناقضين، ودائماً شعرت بأن لوعي
المثقف الأولوية على وعي القبيلة".
إ. سعيد: لم أحاول مطلقاً أن أعطي للتكافل أولوية على النقد. فشخص مثلي، لم يكن لديه
أبدا مكتب سياسي ولم يرد ذلك، لهو بمنأى عن جبن عدم الرغبة في تحمل مسئولية إنجاز
مهمة ما، فالشيء الجيد الذي أستطيعه هو أن أحاول توضيح الوضع عن طريق تحليله
وأترك الناس يحكمون حسب أفضل دليل أستطيع
تقديمه.
لكنني لا اكتب عن أي
شئ ، لا أظن أنني قادر على ذلك. أنا أكتب عن الأشياء التي تهمني. وبالطبع أحد هذه
الأشياء هي فكرة الأصل القبلي لي، والمكان الذي ولدت به. لكن لا أقوم بذلك دون
توضيحه بطريقة غير متعاطفة قدر المستطاع ودائماً ما يصاحب ذلك تفضيل للقيم العظمى– القيم الكونية أكثر من قيم الوطن، القبيلة والأسرة.
ومثل هذه الموضوعات
ستكون عن العدل، القهر، بما يعطي سياقاً تاريخياً عندما يفقد مثل هذا السياق.
وفي النهاية لا أعتقد أنني أريد تخليص الأشياء أو تبنى موقف مسبق. فعند القيام
بذلك ستمضى وقتاً كثيراً في جمع التفاصيل الملائمة لهذا الموقف، وليست تلك التي
ترشدك إلى المشكلة التالية.
ــــــ أتساءل
هل تشعر أننا نعيش في عالم يحاول دائماً أن يجبر الكتاب والمثقفين على القيام بهذا؟ فعندما صدر كتابي، قال الناس: لقد قدمت كل هذه الأسئلة ولم تقدمي أية
إجابات".
إ. سعيد: نعم الناس دائماً يحتاجون الإجابات ففي مواقف محددة يجب تقديم بعض الإجابات،
لكنها أنواع مختلفة من الإجابات لأنواع مختلفة من الأسئلة.
غالباً ما يسألونني عن
الشرق الأوسط ، فالناس دائماً يريدون معرفة ماذا سيحدث، وهناك سؤال من نوع آخر:
"لماذا لا تتوقفون عن قتل الناس؟".. وهذا سؤال أمريكي. وأعتقد أنه
ضروري للمثقف أن يوجه النقاش بعيداً عن مسارات المسائل البرجماتية، المسائل التي
تحتاج إجابات سريعة.
يجب أن يحاول المثقفون
توضيح أن معظم إجابات الوقت الحالي ليست متاحة ببساطة. فهناك بعض الأوقات، عندما تعيش في لحظة معينة، لا تستطيع عندها أن تعلن إجابتك كاملة. لكن في النهاية أجد نفسي غريزياً، و
يرجع ذلك جزئياً إلى قوة النزعة النقدية بداخلي، على الجانب الآخر من السلطة.
هناك ناس يتحدثون كما
لو كان كل شئ سابق التجهيز، نوع من الناس يعرف أنهم عند خروجهم من الباب سيجدون
سيارة في انتظارهم. هناك شعور بالثقة والعزم تجاه كل شئ أنظري إلى الطريقة التي
يتحدث بها "بوش" لقد جعلني أتوتر لأنه كان متأكداً للغاية.
حسناً لنكن عادلين معه– حقيقة لماذا يجب أن نكون
عادلين معه؟- هناك قليل من الخسة في
شخصيته، فدائماً يتلفت حواليه ليتبين هل مازال مستمعوه موجودين. وفي اليوم
التالي يقول: "من لهم تعاملت مع الإرهابيين لن يتعاملوا مع أمريكا ،
"وحقيقة أن أي شخص يستطيع أن يتكلم مستخدماً مثل هذه الاختزالات الضخمة–
أمريكا أو الإسلام– و التي تجعلني أرغب في تحطيم غرورهم.
ــ منذ أحداث 11
سبتمبر، ثمة اندفاع حقيقي في إصدار الحكم، ويبدو لي أنك تتحدث عن الابتعاد عن
الاستجابات الانفعالية، واللجوء إلى كتابة محترفة ومتقنة . لكن يبدو البعض غير
مدركين إطلاقاً أنهم يكتبون بطريقة ميلودرامية.
إ. سعيد: في 11 سبتمبر كنت في نيويورك، وأول شئ كان علينا القيام به أن نسجل الصدمة–
ليست الصدمة مجردة لكن الشعور بالانتهاك والغضب في هذا الفعل الرهيب المجرد من
الإحساس.
بعدئذ شعرت– وهذه
ورطة حقيقية – أن هناك كثيراً من الناس مفروض عليهم أن يملأوا الأعمدة. ودائماً
هناك شئ مرعب وراء الصدمة والغضب ، يحاول الناس جميعاً أن يهزم أحدهم الآخر
بتوصيفات قوية ومؤثرة لما يعتقدون أنه قد حدث.
وإذا حاولت وتحدثت عنه
بطريقة تحليلية، سترى كما لو كنت تبرره. والفكرة التالية لذلك هي أنك ضد أمريكا، أو غير أمريكي. وكانت ذروة ذلك قائمة نشرتها منذ أسبوعين (لين تشيني)– زوجة
نائب الرئيس. كانت رئيسة للجنة القومية للمساعدات الإنسانية ، وقضت وقتها في
محاولة لوضع نهاية الأمر كله ، وهكذا نشرت – بالتعاون مع شخص آخر– قائمة من (112)
أو قد تكون من (117) شخصاً غير أمريكيين. أشخاص قالوا أشياء لم يكن عليهم أن
يقولوها وهذا هو حالنا الآن. إذا لم تحاول تقديم توصيفات للغضب والانتقام تدعوا
إلى "استمرار الحرب" فأنت حينئذ غير أمريكي.
في وضع مثل هذا – من
الصعب عليك أن تتحدث وتكتب ، لكن اعتقد أن المحاولة واجبة.
ــ لقد عاد كتاب
"صدام الحضارات" لــ "صامويل هتنجتون" إلى قمة أفضل الكتب
مبيعاً.
إ. سعيد: أصحيح هذا ؟
ــ واحدة من أقوى
مقالات كتابك عن "هتنجتون". ويبدو لي أن ثمة مدا أصولياً قويا في الغرب
كما هو الحال في الشرق.
إ. سعيد: نعم– حالة تثير الاهتمام. فلقد كان له مكانة عظيمة كأحد منظري الحرب الباردة،
لكنه صدمني مثل شخص ما عند نهاية الحرب الباردة اكتشف مذعوراً أنه "لم يعد
هناك ما يقوم به".
وكان لزاماً عليه أن
يبتكر شيئاً ما، وهكذا جاء بهذا الكلام ، مثل أي طالب سئ ، كلما كتب أكثر كانت
النتيجة أسوأ. فهو لا يعرف شيئاً عن الثقافة ، لا يعرف شيئاً عن التاريخ وأظن أنه
يعرف شيئاً ما عن السياسة ، لكن مثل هذه الكلمات الضخمة: "الغرب"،
"الإسلام" "الكنفوشية"… فهو يخبرنا حقيقة أن نكون على حذر
شديد هذا شئ يجب أن نحرص عليه عند الخروج من المسرح – فهو يقول: "انتبهوا
للصلة بين الكنفوشية والإسلام".
حسناً – هذا تزيد فظيع
فالشخصيات التي يُقال أنها كنفوشية تتجول في الشارع وهي ترتدي قبعات صفراء على
الرأس.لكنه لم يفكر مطلقاً أن الثقافات معرضة للتساؤل والشك، وأنها في الحقيقة
ليست محددة بصرامة، بل تبدو مصنوعة من الجيلي ، دائمة التداخل والاتحاد. و أن
فكرة الأصولية شائعة في كل الثقافات.
لكن المسألة – حقيقة –
تعود إلى التمسك بالمعاني الحرفية مثلما يفعل أناس مثل "هتنجتون" و"أسامة بن لادن" فهم يأخذون نصاً، قد يكون ممتلئاً بالمخاتلة وعدم
اليقين والشك ، ويحولونه إلى دعوة صريحة للفعل.
ــ هذا هو الوقت الذي
يجب أن نؤيد فيه القيم الدنيوية والإنسانية.
إ . سعيد :
تماماً ، فأنا متمسك بأنني دنيوي ولا أخجل من هذا، هذا ما علمني إياه معلمي
العظيم (فيكو) وهو صحيح تماماً . فهو يقول أن العالم قد صنعه البشر ، والعالم
التاريخي يمكن فهمه فقط لأنه من صنع الرجال والنساء، أما التاريخ المقدس والطبيعة، فليس للبشر سوى سيطرة محدودة عليهما، باستثناء تدمير الطبيعة ، وإساءة تفسير
المقدس.
التاريخ الدنيوي صنعه
البشر، وهكذا يمكن فهمه انطلاقاً من هذا فقط، وليس من خلال الإلهام أو الحماسة
الخاصة أو البصيرة. هذا هو الشئ المحوري.
فالناس يخطئون في فهم
شئ واحد عن الولايات المتحدة وهي أنها أكثر دول العالم تديناً، وفي استبيان، قال
(88%) من الأمريكيين أن الله يحبهم. وتختلف كل الديانات الكبرى حال وجودها في أمريكا
فهي تصبح خليطاً غريباً من التفرد، التفكير الإيجابي والخيال المتمركز حومل الإله، ووفقاً له يقع المشروع الأمريكي في مركز العالم كله وهذا ما يستحق التسجيل.
ــ في عطلة الأسبوع
الماضي ، كان في لندن شاعر إيراني قال في إحدى الندوات: "لا يستطيع الشعراء
الكتابة عن 11 سبتمبر، ومن الضروري أتتم الكتابة عنه في وقت سابق".
واعتقد أنه مخطئ لكن
هذا يوضح أن الناس بمثل هذا الخيال يكتبون عن مثل هذا النوع من الأحداث.
إ . سعيد:
لا أظن أنني سأوافق على ذلك، وأظن أن المسألة تتعلق بالحصول على خبرات مشابهة.
وأحد الأسباب التي
جعلت الكتابة عن أحداث 11 سبتمبر صعبة في أمريكا، أنها لم تكن هناك سوابق .
ويرجع ذلك إلى أن
أمريكا مكان مميز جداً ومحمي تماماً.
أما الأمريكيون الذين
جاءوا من أماكن أخرى من العالم، لنقل من الشرق الأوسط، فقد اعتادوا على رؤية
بنايات تنفجر.
أتذكر أنني في طفولتي
شاهدت انفجار (فندق الملك داود) في القدس. وأستطيع أن أتذكر ذلك الآن.
مثل هذه الأشياء
تُجهزك لنوع الحدث الذي وقع في 11 سبتمبر، لكن ليس بالضرورة بنفس الدرجة أو القوة
التي حدث بها.
ــ سنتلقى سؤالاً الآن. " في ضوء الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط ما هي رؤاك؟".
إ . سعيد: حقيقة لا أعرف من أين أبداً، باستثناء أن أقول شيئين عن (إيريل شارون) الذي قمت
بدراسته وأصابني بالدهشة طوال سنوات عديدة.
أولاً: ظهوره وعلى
وجهه عرق، وضخامة منطقة الوسط والحوض، هناك شئ منُفر في الطريقة التي يمشى بها
أو لنقل يتدحرج… لقد ولد ليخسر.
كل شئ يفعله… لا
يتسبب فقط في إراقة الدماء والتدمير، بل لا يحقق أبدأ النتائج التي أرادها.
وهذا سجل محبط بالنسبة
لشخص يعمل في مجال الخدمة العامة طوالي ثلاثين عاماً– وعمله: قتل العرب لقد حاول
قبل ذلك تدمير الروح الوطنية الفلسطينية عن طريق قل الفلسطينيين ولم ينجح أبداً،
بل لقد زادها قوة، فمنذ (19) عاماً قام بكل ما يقوم له الآن: الحصار، التفجير،
السعي وراؤ عرفات… ولم يفلح ذلك.
والآن يفعل نفس
الأشياء وسيحصل على نفس النتائج سيقتل الكثير من الناس وسيجعل حياة كل شخص بائسة،
وسيضرب عرفات في مكان آخر لكنه لن يموت.
هناك حالة قاسية من
العمى، وهي مناقضة تماماً لما يريده الإسرائيليون حقاً: حياة طبيعة في مناخ أمن. لكن يبدو أن لديهم ولعاً باختيار الرؤساء الذين يحققون عكس ذلك تماماً.
وعلى المدى الطويل،
ليس لدي شك من تحقق نوع من الحل السلمي … أعنى أنك لا تستطيع تدمير شعبين. وأعتقد
أن "شارون" سوف يغادر موقعه أسرع مما يتوقع الناس، و كذلك أعتقد أن
الفلسطينيين سيستمرون في صراعهم الذي يبدو بلا نهاية فقط ببقائهم على الأرض
سيفسدون كل ما يسعى إلى عمله. أما بالنسبة لما يحدث بعد ذلك، فأنا لست في موقع
يؤهلني لقول ذلك. لكنني متأكد أن المجهود الإسرائيلي لاسكات هذا الشعب لن يفلح.
وقد سألت صديقة لي
(إسرائيلية – أمريكية) عما كان الإسرائيليون يفكرون فيه عندما انتخبوا (شارون)،
وقالت: أعتقد أنهم أرادوا قهر الفلسطينيين. سألتها: ما معنى ذلك. وأجابت: لا
أعرف.
(سؤال): ما مدى علاقة
كتابة (فرانز فانون) بما يحدث الآن .
إ . سعيد: أشعر بارتباط بيني وبينه ، فلقد مات
نتيجة لإصابته بسرطان الدم "اللوكيميا" وأنا مصاب به كذلك وكتابه (الأرض
البائسة) مخصص بأكمله لكل أنوع الأحلام والاضطرابات التي تحدث، ليس فقط
للجزائريين ، لكن كذلك للفرنسي الذي عالجه. وجعلني أتبين أن استعمار أو سيطرة شعب
على شعب آخر – وكما هو واضح، فهذا هو ما يحدث الآن، والجيش الإسرائيلي يسيطر على
الضفة الغربية وغزة ويسعى إلى تحطيم إرادة الفلسطينيين – فإن هذا الاستعمار يؤدي
إلى اضطرابات عميقة أكثر مما أراد المسئولون، فهم يريدون عودة كل شئ إلى المربع
رقم (1) – وأن يعود السكان الأصليون إلى سابق حالهم ويكتفوا بكونهم سكانًا أصليين .
وكما هو واضح فإن ذلك
لا يحدث. فكل الأشياء التي يتسبب فيها الاستعمار من: تدمير المؤسسات، وتدمير
الأرواح، الأطفال الذين يرون آباءهم
يذلون بواسطة جنود إسرائيليين صغار، ويخلق بداخلهم شعوراً عميقاً بالظلم ويزيد من
قسوة ظلمهم للآخر. شكل من أشكال المقابلة بالمثل أو "الثأر" و"قانون" شديد البراعة في وصف ذلك. كذل اهتم بالآثار التطهرية للقوة .
لكنني لا أوافقه في ذلك، رغم أنني في وقت ما كنت موافقاً.
وأظن أن
"شارون" وشعبه حاولوا – بطريقة ما – أن يختلقوا حوادث تسمح لهم بتعميق
احتلالهم ، وزيادة سيطرتهم على الفلسطينيين .
لكن أمور لا تسير
دائماً بهذا الشكل، ففي جنوب أفريقيا رأينا الشعب المقهور يخلق رؤية قاوم بها
الآخر من خلال إنسانيتها وثرائها. فالأمر لا يتعلق فقط بالوحشية والانتقام، فقد
يؤدي الاستعمار – وهذا لا يقدمه "فانون" إلى نوع مختلف من التخليق،
وهكذا فإنني أرى أن عمل (فانون) يتسم بدقة تحليلية عظيمة، أجدها قوية جداً ,مثيرة
للاهتمام ، لكنني لست متأكداً من اتفاقي الدائم مع النتائج التي يصل إليها.
هناك شئ آخر، ففي
نهاية عمله، يعلن أنه لا فائدة من المحاولة البسيطة لاستبدال المستمر بنظيره
الأسمر أو الأسود . فهو يقول "نحن لا نحارب التحرر هذا ، من أجل استبدال رجل
بوليس أبيض بآخر أسمر" وهو بذلك يتحدث عن الحاجة إلى أن يتجاوزن التحرر فكرة
الاستقلال .
وأظن أنه لو عاش لطور
هذا الموقف أكثر. واتفق معه في ذلك. فأنا أعتقد أن صراعات الإنسانية من أجل
الحرية لا تمنح فقط مجرد رفض للدولة السابقة، لكنها في أفضل الأمثلة تستطيع أن
تمنح ما هو أكثر.
ــ كتب (كرستوفر
هتشينز) في الجارديان أنه وصلته تحدذيرات بأن (أسامة بن لادن) يمتلك أسلحة نووية،
ويجب عليه أن يغادر واشنطن في الحال ، فهل وصلتك مثل هذه النصيحة الصدوقة .
إ . سعيد
: لقد قال شيئاً غاية في البراعة – بأنه رحل متأخراً وعاد مبكراً كي يجعل نفسه
يشعر بتحسن . لكنني لا أتمتع بما يحظى به (كرستوفر) من علاقات صداقة مع عليه القوم
في واشنطن . فكل من أعرفهم من (اللامنتمين).
نعم لقد وصلتني رسائل
بريد إلكتروني تسبني "أنت ليت أمريكيا …" لماذ لم ترحل ؟ " … لكنها
ليست من أي شخص ممن يوقعون على رسائلهم.
هناك نوع من تضخم
الخطاب ، حيث يتزايد حجم لغة العدل والحقيقة . وسيطرت عليه القوى التي تدعى أنها
تجلب العدل والخير على العالم كله . ويجعل ذلك محاولة المثقف لمخالفة هذا الخطاب
أمراً شديد الصعوبة . ومن الصعب قول أي شئ الآن . ويشعر الواحد بالحيرة تجاه
الكلمات لأنه لا يستطيع ابتكار لغة جديدة ولا يريد تكرار ما قاله الآخرون.
لا تريد استخدام كلمات
شديدة التعقيد لا يفهمها أحد ، لكنك تريد الصراع لأجل استعادة السيطرة على اللغة .
وأعتقد أن السبي لغلى
تحقيق ذلك هو تقديم وصف دقيقة بدقيقة ، لمشاهدة الرعب المعاناة التي تدربنا ،
أيدولوجيا ، على نسيانها أو تجاهلها .
إذا نظرت إلى
التليفزيون أو تصفحت الصحف ستحصل على انطباع العالم هو الموجود في التليفزيون و
الصحف وعلى المثقف أني حاول استعادة الذاكرة واستعادة بعض المنطق في مشاهد التدمير
ما معنى أن تقف على حافة قوية لتقصفها ، خاصة عندما لا يكون هناك أية دفاعات لدى
الجانب الآخر.
ثمة ظاهرة جديدة تحظى
بها الولايات المتحدة وإسرائيل. وهي المحاربة من على بعد خمسين ألف قدم . ولا يعلم
أى منا ماذا يحدث على الأرض. ولهذا – ولا أتهمه بذلك – هيكل مشابه للإرهاب .
فالناس الأبرياء على الأرض يتم تجهيلهم قبل محوهم. فالشخص الموجود في الطائرة لا
يعرف ماذا يحدث على الأرض .
وفي حالة التفجير
الانتحاري ، يُمحى منفذ العملية ، أما في حالة القصف بــ (B-52) فإن الطيار يعود إلى (سان لورانس) أو إلى أي مكان آخر دون أن
ينشغل بالتفكير فيما حدث . وينطبق ذلك على هؤلاء الذين يطلقون الصواريخ أو
القاذفات على قوات لا يستطيعون رؤيتها أو معرفة أي شئ عنها.
يجب محاولة دراسة وفهم
كيف يصبح ذلك ممكنا ، كيف يُدفع الناس نتيجة لليأس والفقر ، أو بواسطة الخبل إلى
القيام بأفعال تدميرية تخلو من أي إحساس أو معنى. الفضاء موجود هناك ، لكن من
الصعب جداً أن تطالب به منذ أسابيع مضت ، أجرت صحيفة دانماركية حواراً معي ،
وأخبرتني أنها تريد قراءة القرآن. سألتها " لماذا تريدين ذلك ؟ " قالت :
"لأفهم" سألتها "تفهمين ماذا؟ قالت : "أحداث 11 سبتمبر"
لكنها لم تستطع شراء نسخة من القرآن لأن جميع النسخ في كوبنهاجن قد نفدت.
قلت لها : "يجب
أن تتحررى من ذلك"، قالت لي "ألا ترى أنها فكرة جيدة ؟ ".
قلت "لا – بل
رهيبة"، فنظرت لي في حيرة . قلت "دعيني أوضح لك الأمر، هل إذا أردنا أن
نفهم الدنمارك هل نقرأ الإنجيل، أو "هانز كريستيان أندرسون"؟ - آهــ ،
هذا هو "هانز كريستيان أندرسون" ؟ تماماً ، لماذا لا تفكرين في قراءة
روائي ؟ هناك اهتمام لكنه اهتمام خاطئ فالفكرة هي أن كل مسلم يستيقظ من النوم
ليقرأ القرآن ثم يخرج إلى الشارع لتنفيذ ما قرأه ومهما كان الأمر ، فأنا أتحدث –
حقيقة – حسب وجه النظر الأمريكية ، حيث لدينا نقاد متأملون مزعجون يظهرون على شاشة
التلفزيون ليعطوا أفكاراً خاطئة بأن المسلمين
قد فشلوا .
يجب علينا أن ننأي عن
التعميمات الضخمة ، ونتطلع إلى العمل الأدبي ، وإلى التعددية وليس إلى توحيد
الأشياء . وأعداد المسلمين والعرب كبيرة في أمريكا تعيش بلا أمل . وليس لدي الحق
في الحديث نيابة عن كل واحد ، لكنني أعتقد أننا جميعاً مهددون . ثمة سحابة ضخمة
معلقة فوقنا ، نشعر أننا جميعاً متهمين بسببها.
ــ إذا كانت نسخ
القرآن قد نفدت ، فهل هناك رواية توصي بها ؟
إ . سعيد : نعم- فالرواية تحطم القوالب. لا يمكن أن تفكر بعد الآن في أن الناس ليسوا سوى إرهابيين مبرمجين يريدون الخروج
ليقتلوا أولا لإطلاق الصواريخ. هناك كتاب يجب أن يقرأه الجميع (يسوع عند السلمين)
لــ(طريف خالدي)، وهو كتاب يضم كل الأقوال عن (يسوع) في القرآن وفي كتابات
المسلمين، ويوضح الكتاب أن المسلمين يهتمون كثيراً بمُنشئ المسيحية . ليس بوصفه
إلهاً، لكن بوصفه بشراً مهما ومثيراً للإعجاب – وكذلك يعطيك الكتاب فكرة عن
الاحتمالات الموجودة في ديانات مثل الإسلام للانفتاح على الديانات الأخرى والتبادل
معها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق