الاثنين، 30 ديسمبر 2013

دخول المسلمين عصر ما بعد الحداثة، أكبر أحمد




دخول المسلمين عصر ما بعد الحداثة

    ولأجل إيجاد تفسير لما يحدث في المجتمع المسلم، فمن الضروري أن نحلل ما بعد الحداثة بوصفها علما اجتماعيًا، آخذين في الاعتبار منشأها الأوربي والتفسيرات الحالية ليست خاطئة تماماً، ولكنها غير كافية لمجارات التغيرات السريعة المتلاحقة في المجتمع المسلم.
   ولنحاول في البداية تحديد تيار ما بعد حداثي في الفكر المسلم المعاصر وبغض النظر عن الفيضان الأدبي في الغرب (على الفن ـ العمارة ـ الأدب) لن نجد لـ "ما بعد الحداثة" تأثيراً يذكر على المسلمين وذلك رغم أن بعض المدرسين المسلمين ماثلوا بينها وبين "الوضع الجديد" الناتج عن عوامل اقتصادية وسياسية بعد حصول المسلمين على استقلالهم من القوى الاستعمارية ؛ إلا أنهم أخفقوا في تطوير نقاشاتهم وفق اتجاهات ما بعد حداثية.
    وقليلة هي الكتب التي تحاول طرح هذه المسألة للمناقشة ومنها كتاب (مسلمون متحاورون: حوارات ثقافية حول ما بعد الحديث والأصالة ـ فيشر وعابدي 1990).
    وتتسم التعليقات المسلمة القليلة حول ما بعد الحداثة بأنها مترددة وشاملة: فهم يرفضونها بوصفها امتداد لحداثة الغرب وبوصفها محطمة ومهلكة، مساوين بينها وبين (التأمرك Americanization) (العدمية النهلستية)، (الفوضوية)، و(النزعة التخريبية).
    وكثير من المؤلفين؛ حقيقة يساوون فيما يوردونه بين ما بعد الحداثة بشكل عام وبين الحضارة الأمريكية. وربما يفسر هذا وجهة نظر (فيشر وعابدي) التي تنبني كلية على بيانات من إيران ـ في الثمانينات ـ جعلت الممثل والمسيطر على عالم ما بعد الحداثة إنما هو الولايات المتحدة أو كما أطلق عليها "آية الله خوميني"، الشيطان الأعظم، وهذا التماثل؛ رغم أن بعض النقاد الغربيين قد استخدموه مثل "كروكر وكوك".. فلهما ـ ما بعد الحداثة ثقافة سعار ؛ ليس إلا تبسيطاً خاطئاً واختزالاً مضللاً.
    وهذا بدوره يعد تبايناً فكرياً زمنياً بين المسلمين والغرب. ففى حين أن ما بعد الحداثة أصبحت بالنسبة للبعض ـ في الغرب ـ بمثابة ماض Passé أو أكليشيه الأمس، فإن الفكر المسلم مستمر في الثرثرة حول قضايا مبتذلة تتعلق بالحداثة وبغض النظر عن موقفهم المُندد بالإمبريالية الأوروبية والتحلل الغربي أو دق طبول الماركسية الاشتراكية ؛ فإن العناوين مازالت تستخدم كلمة "الحديث": (الإسلام والتحديث ـ رحمن 1980)، (أزمة الإسلام الحديث ـ يبنى 1988)، (إيمان لكل العصور: الإسلام وتحديث الغرب ـ أقطار 1990 – Akhtar،... وآخرون).
    وهكذا فإن الاستجابة لـ (ما بعد الحداثة) ؛ لسخريتها وتهكمها ؛ لمنظورها واحتمالاتها، عادة ما تكون: إما عدم إدراك أو غضب فيبدو الموقف كما أن شعبين مختلفين يتحدثان لغتين مختلفتين ويمثلان منطقتين زمنيتين مختلفتين.
    إذن ـ ماذا يمكن أن تعنى ما بعد الحداثة للمسلمين؟ ومتى تميز عن الحداثة أو تعد حداثة في شكل آخر، وهل هي مجرد مبدأ آخر مستعار من الغرب لتطبيقه ـ أو إساءة تطبيقه ـ على المجتمع المسلم مثل الحداثة ذاتها، بما يصاحبها من أفكار عن "التقدم" و"المعقولية" و"الدنيوية" ؟ وهل من الممكن لمصطلح نشأ في التقاليد الأوروبية الثقافية أن يكون صالحاً في إفريقيا وآسيا؟
    وإلى أي مدى سيكون في مقدور القادة والمفكرين المسلمين أن يفسروا السمات الرئيسية لـ "ما بعد الحداثة"؟



عمارة المسلمين بعد الحداثية

    حدد "جنكس" بدقة لحظة موت العمارة الحديثة بـ: (الساعة الثالثة واثنين وثلاثين دقيقة من بعد ظهر الخامس عشر من يوليو لعام 1972، وذلك في "سانت لويس ميسوري".. عندما تم تفجير جزء من بناية "Pruit – igoe" وبدون هذا التحديد اللحظي باستطاعتنا أن نتوصل إلى يوم مولد فن العمارة بعد الحداثي في المجتمع الإسلامي.
    ولقد لاحت أولى محاولاته للظهور من مربع غير متوقع في مكان غير متوقع وبلا اندهاش ـ أتى من "جامعة هارفارد"ـ حيث كان الأمير "كريم الأغاخان"  يدرس.
    وفى الغرب ـ يقترن لقب "الأغاخان" بالثراء الفاحش وسحر غموض الشرق (راجع حواري في الجارديان 1991).
    ونادراً ما يظهر للأضواء الدور الجاد الذي قام به حامل هذا اللقب خلال العقد الماضي. وذلك لتجاري الأفكار الإسلامية؛ الحياة المعاصرة. وبالنسبة له يعتبر فن العمارة الإسلامية هو أفضل مثال للتاريخ والفكر الإسلامي، فمن خلاله يعبر عن فلسفة ما.
    فـ (عظمة، وتناسق، ونبل) العمارة الإسلامية، تساعد على خلق شعور بالفخر والاعتزاز بالهوية بين المسلمين.
    ومن فندق (سيرينا) المشيد حديثاً في باكستان، حتى فندق (سيرينا) في "زنزبار" المشيد في مبنى مرمم ؛ نستنتج أنه يشجع الجمع بين الماضي والحاضر.
    وتمتد مشروعات "الأغاخان" من إندونيسيا إلى المغرب.
    وتتولد الأفكار من برنامج الأغاخان للعمارة في (MIT – Harvard) ووديعته في جنيف.
    ويعتبر الجامع الهائل لـ (نيونو Niono ) في مالي، والفائز بمنحة الأغاخان للعمارة الإقليمية ـ وكذلك صالة الحجاج في مطار جدة ـ الفائزة بمنحة الأغاخان لأنظمة التشييد الملائمة ـ مثالين شيقين ومتقابلين من قارتين مختلفتين، وهنا تكمن "السخرية".
    فـ "الأغاخان" هو الإمام ـ بالوراثة ـ لواحدة من أكثر الطوائف تلاحماً وتمسكاً بالتقاليد بين المسلمين وهى (طائفة الإسماعيلية). ولمزيد من السخرية: فإن هذا الشخص اللبق ـ غير المنافق والخجول أيضًا، هو نفسه من يقوم بثورة اجتماعية واقتصادية ـ هادئة ولكنها بعيدة المدى ـ في حياة أتباعه.
    والسخرية الكبرى: أن مشروعه هذا يجمع بين الإسماعيليين وغير الإسماعيليين كما لم يحدث من قبل في التاريخ.. وبذلك فإنه يقدم دليلاً ليتبعه التيار السائد بين المسلمين الذين يعتقد معظمهم أن هذه الطائفة متطرفة دينياً ومهرطقة.
    وأثناء انعقاد ندوة لي في غرناطة، كان الأغاخان وملك أسبانيا يفتتحان (medieval Zafral house) في الخامس من يونيه 1991، والذي سبق أن رممه "الأغاخان" ليصبح مركز الدراسات التاريخية في غرناطة، وكل ما به من (أقواس، أعمدة ـ فناء ـ ونافورة) يشهد على عصر مجد الفن الإسلامي. وهذا الحدث على وجه الخصوص تهكمي ؛ لأنه وافق استعداد أسبانيا لإحياء الذكرى الخمسمائة لطرد المسلمين نهائياً في عام (1492).
    أما المثال بعد الحداثي في العمارة، والذي أود أن أشير إليه فهو فندق "سيرينا" في (كوته) ـ في باكستان ـ والذى تم افتتاحه عام 1988، وتعكس حيطانه الطينية البنية، وبساطته المعمارية الشديدة ؛ الطبيعة القبلية للمجتمع الـ "بلوشيستاني Baluchistan" الذي يعيش أفراده في قرى محصنة، ولا تنقص حجراتهم وسائل الترفية الحديثة.
    وتصبح التصميمات القبلية البالوشية مع أحدث نظم الإضاءة المخفية في الجدران، سعف النخيل والرخام، جميعها بمثابة "كيتش Kitsch" ـ ذوق مبتذل ـ بينما في صحاري وجبال بالوشستان الأمر مختلف تماماً.
    وفي هذا بعض ما يعرف بـ "السخرية من الذات Self parody" أو التهكم ورغم ذلك ـ فإن كثيرين من نزلاء الـ "سيرينا" لا يشعرون بالرضا. وقد اشتكى لي ـ كثير من البالوشيين لأنه يفتقدون العمارة الغربية الحديثة فالحيطان الطينية والأبراج تذكرهم كثيراً ببيوتهم التي يرغبون في الهرب منها ولو لفترة.
    وعلى كل حال ـ الحداثة ليست ميتة بين المسلمين. ففي منتصف الستينات ـ افتتح الرئيس (أيوب خان) أكثر فنادق باكستان رفاهية ومودرنية (فندق الإنتركونتينتال في كراتشي) بعمارته الخارجية، وديكوراته الداخلية المطابقة والممثلة لهذه الفترة. ويعد الفندق بمثابة نسخة من أي (متروبوليس Metropolis) في العالم: لندن أو طوكيو.
    وكذلك الجيل الحالي من أفضل فنادق كراتشي ("أبراج أفاري Avari Towers " شيراتون ـ هوليداى إن..) وجميعها على نفس النمط: بنايات ضخمة، وبلا هوية وكذلك الحال بالنسبة لفنادق (لاهور ـ وإسلام أباد) التي تبعث في خنوع الانتقال من نمط إلى آخر.
    وحتى الفنادق الصغيرة في المناطق النائية، تحاكي ـ قدر استطاعتها ـ هذه النزعة.
    ويتنازع الأغاخان نمطان من العمارة:
    الأول: العمارة التاريخية المتمثلة في المدن الإسلامية القديمة.
    والثاني: العمارة الحديثة في المدن الحديثة.
    وتعد القاهرة ولاهور، بعمرهما الذي يتجاوز القرن، ومساجدهما شديدة التشابه، وحدائقهما وبناياتهما "رغم انهيار معظمها"، مثالاً على الأول. أما النمط الثاني الذي طالب به فهو مدينة "إسلام أباد" ـ برازيليا الإسلام وعاصمة باكستان ـ والتي شيدت في الستينات على سهل مهجور. وكان (أيوب خان) يعدها لتكون تحفته التى يقدمها للحداثة. ونفس المهندس المعماري، الأب الروحي للحداثة، وصاحب "Le Corbusier" والذي تغزل فيه موسوليني، عمل مع الجنرالات في كلتا الحالتين.
    وعند تأمل مدينة (إسلام آباد ) تبدو العمارة الحديثة بمثابة كارثة ذهنية، وعار أخلاقي: ولقد نسيت أي مشهد من الجحيم بدت عليه "إسلام آباد " هذا النسل غير الشرعي لعلاقة العشق الذهنية الآثمة بين مهندس معماري وديكتاتور. وعلى المرء أن يتحايل على مثل هذه الاتفاقيات، لأن الذي فُرض ذات مرة بالإكراه ـ كجديد، الآن بالٍ ومتهرئ.
    وفي المتروبوليس ـ كنت مسجوناً في مشهدية ماضوية للمستقبل. وبغض النظر عن اسمها ـ مدينة الإسلام ـ فإن عمارة إسلام أباد لا علاقة لها بعظمة الرؤية الإسلامية ولا بنبالة أفكاره.
    وكما يقول العامة: إسلام أباد شيدت كـ "مقبرة" حيث من الممكن دفن البيروقراطيين بسلام قبل موتهم.
    وليست (إسلام أباد) على النقيض من بيروقراطييها، فهي تفتقر للحياة، بلا هوية وكئيبة. فطرقاتها عبارة عن حارات مستقيمة، ومبانيها تبدو نسخة واحدة. أما المنشآت المركزية، فمن الممكن أن تجلب من أي عاصمة أخرى بلا أي فقدان للهوية. ومثل العمارة الحديثة في أي مكان في العالم، ففي إسلام أباد: الشكل يلي الوظيفة، فالإضاءة فلورسنت، والتكييف مركزي، والمباني ضخمة ومتلاصقة وينطبق هذا على: سكرتارية الرئيس ـ المجلس القومي ـ ومكتب الخارجية.
    والبعض ـ مثل مبنى سكرتارية الرئيس ـ ظل تحت الإنشاء لسنوات، وتكلف بلايين الروبيات. وقد صممت هذه المنشآت وفقاً للمواصفات القياسية الدولية ؛ ولكنها لم تأخذ في الاعتبار مناخ باكستان، ولهذا سرعان ما تعطلت أجهزة التكييف، والشبابيك التي لم يكن مخططاً لها أن تفتح ـ أصبح لا مفر من فتحها لأجل بعض الهواء المنعش ولم يخطر ببال أحد أمر التوصيلات الخاصة بالتدفئة، لأهميتها في شتاءات "إسلام أباد" الباردة.
    وحتى (مسجد فيصل)، درة العمارة في إسلام أباد، معزول عن النمط الإسلامي الكلاسيكي وكذلك عن طبيعة الأجواء الراهنة. فالمهندس التركي الذي صممه ؛ فضل المثلثات ذات الزوايا الحادة على الانحناءات الانسيابية والقباب التي تميز النمط الإسلامي. وبدت المآذن الأربعة (90 متر ـ 300 قدم) للكتّاب البريطانيين بمثابة صواريخ على منصات الإطلاق، وبالفعل تذكر هذه المآذن الواحد بصواريخ الفضاء. ولقد فشل المبنى ـ رغم جلاله ـ في اكتساب روح المكان.
    و إذا كان الإدمان هو ألفة أنه: الأكبر في العالم ـ والأحدث.. إلى آخر ذلك، فهناك على الأقل نصف دستة من المساجد تحظى بهذه السمات الجليلة.
    وأصبحت تساؤلات من قبيل (كبير أم لا، تقليدي أم حديث) من العلامات المميزة ـ الآن ـ في إسلام أباد.
    ولقد أقحم جزء كبير من سمات العمارة الحديثة ـ بلا تفكير وبشكل شائع ـ على الطابع الإسلامي الذى ينبع من قلب العالم الإسلامي: الحرم الشريف في مكة. و يعد قوس النصر في بغداد مثالاً آخر، ممثلاً ذراعي صدام حسين وهما تحملان السيوف.
    وفي ديسمبر 1989، وأثناء تأديتي للعمرة ـ زيارة دينية لمكة ـ أقمت في النُزل الباكستاني بالقرب من الحرم الشريف، وكان الحجاج الهاربون من الضجيج والزحام ؛ محاصرين بكليهما في مكة.
    أما خارج الحرم الشريف والأراضي المحيطة به، فإن المرء ينعم ـ بعض الشيء ـ بالبعد عن الضجيج والهرج والغبار.
    وقد كانت الجرارات العملاقة والشاحنات والحفارات تعمل في كل مكان وطوال الوقت، لتمهد المواقع للبنايات الشاهقة، ولكنها أجبرتنا على الاستيقاظ طوال الليل، وكذلك أدت إلى تعلق سحابات من الغبار في الهواء بدت مثل الـ"ضخان Smog"ــــ مزيج من الضباب و الدخان".
    وتم حفر الجبل الصخري في قلب مكة لإنشاء أنفاق بمثابة مجازات سريعة على ضيقها. وقد تسبب واحد من هذه الأنفاق في موت أكثر من حاج منذ شهور معدودة، مما دفع بالملك فهد أن يعلق تعليقاً أُسيء فهمه على نطاق واسع، والتعليق: "قدرهم أن يموتوا".
    ويتركز النشاط الدائب على إنشاء مدينة داخل مدينة، متاهة من الأماكن، بالقرب من الحرم الشريف.
وهكذا تطغى أشياء مثل (فندق Vulgar parvenu) أو صف من المحلات التجارية ؛ بشكل بغيض على المزار المقدس، وهذا واضح للعيان عبر الفناء. وفى أسوأ حالات التماهي الحديثة، لا أثر لأدنى تنازل للثقافات المحيطة ولا للأفكار بعد الحداثية على العمارة الإسلامية.
فبلا تهوية، بلا نوافذ، بلا واجهة.. يذيع عنه الغموض وسرية أداء الطقس.. وأصحاب الأمر هم أصحاب الدم الملكي السعودي، ويقولون ـ لكن من يعلم؟ ـ أن رجل الجبل العجوز قادر على الحياة هناك، وليس في مقدورنا أن نعرف. والهدف من قربه هنا هو أن يسمح لأولي الأمر بالتسلل إلى ومن الحرم الشريف خفية عبر ممرات خاصة.
    ويبدو أن بعض المسلمين ؛ حتى فيما يخص مقدساتهم ؛ قادرين على تحدي جوهر الإسلام (المساواة والبساطة).
    وتعكس العمارة الإسلامية الحديثة ما يتجاوز مجرد عجز في "القدرة"، والأصالة، إلى الفشل التاريخي.
    ويعد محو تراث الـ (موجال Mughal) في الهند والعرب في أسبانيا، أحد أوجه هذا الفشل.
    فتحت وطأة الحاجة للمال والمحسوبية والرغبة في الاستقرار ؛ يعكس المهندسون المعماريون أذواق وآراء قادة المجتمع الإسلامي.
    وعندما لا تتشرب العمارة الإسلامية بالتقاليد فإنها تميل إلى التعبير عن أذواق الأفراد، وأفكار الزبون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق