السبت، 21 ديسمبر 2013

القراءة والكتابة، نايبول، مقال










القراءة والكتابة
"رؤية شخصية"



                                                 ف. س. نايبول
ت. ياسر شعبان




كُنت في العاشرة؛ لا أكثر؛ عندما انتابتني رغبة في أن أكون كاتباً، وسُرعان ما أصبحت بعدها طموحاً راسخاً داخلي.
ورغم أن هذا الموقف يبدو غريباً في تلك المرحلة المبكرة، فلا أظنه غير معتاد. فلقد سمعت بأن كثيرين مِن هواة الكتب واللوحات يبدأون في سن مبكرة للغاية، بل إنني علمت مؤخراً من المخرج المرموق "شيام بنجام" أنه كان في السادسة عندما قرر أن يكرس نفسه للعمل مخرجاً سينمائياً.
أما بالنسبة لي فإن طموحي بأن أكون كاتباً ظَلّ لسنوات عديدة سبباً للشعور بالخجل.
لقد رغبت أن أُمْنَح "قلم حبر" ودواة من نوع "وتر مان" ومجموعة مِن كتب التدريبات الجديدة "ذات الهوامش"، ورغم ذلك لم تَكنْ بي رغبة أو حاجة لكتابة أي شيء، ولم أكتب شيئاً؛ حتى الخطابات لم أكتبها لأنه لم يكن هناك مِنْ أكتب إليهم.
ولم أكُنْ جيداً؛ بشكل خاص؛ عندما يتعلق الأمر بكتابة موضوعات إنشائية باللغة الإنجليزية في المدرسة، كذلك لم أكن أقُمْ بتأليف الحكايات وروايتها بالبيت.
وهكذا أحببت الكتب الجديدة بوصفها أشكالاً مادية، لأنني لم أكن شغوفاً بالقراءة.
أحببتُ كتاباً رخيص الثمن ذا غلاف سميك يقدم حكايات "آيسوب" للأطفال، وكنت قد مُنحت إياه، كذلك أحببت أحد أجزاء "حكايات أندرسن" والذي كُنْتُ قد اشتريته بنقود حصلت عليها في عيد ميلادي.
لكن بالنسبة للكتب التي يُفْتَرض أن يُعجب بها الأولاد في المدارس، لم يكن الأمر على ما يرام.
وعندما كُنا في المرحلة الخامسة مِن الدراسة، كان ناظر المدرسة " السيد/ ويرم" يقرأ لنا من كتاب "عشرون ألف فرسخ تحت سطح البحر"، وكان يصدر ضمن سلسلة "كولينز" للأعمال الكلاسيكية.
ولأن المرحلة الخامسة هي مرحلة الحصول على إعانات، فلقد كانت مؤثرة في سمعة المدرسة. وكانت الإعانات؛ تقدمها الحكومة؛ مقصورة على مدارس الجزيرة الثانوية.
وكان الفوز بمنحة معناه الإعفاء مِن مصروفات المدرسة الثانوية نهائياً، بالإضافة إلى الحصول على كُتب مجانية. وأخيراً كان الفوز بمنحة بمثابة فرصة لتحقيق الشهرة للفائز بالمنحة ومدرسته كذلك.
وأمضيت عامين في مرحلة " صف المنحة "، ولقد كان الحال كذلك لبعض الأولاد النابهين.
وخلال عامي الاول؛ وكان بمثابة عاماً تجريبياً؛ كانت هناك اثنتا عشرة منحة لكل الجزيرة، وفي العام التالي بلغت عشرين منحة.
وسواء كانت اثنتا عشرة أو عشرين منحة، كانت المدرسة تريد نصيبها المناسب ولهذا كانت تدفعنا للعمل الجاد.
كُنّا نصطف امام لوحة بيضاء صغيرة عليها كان " السيد/ بالدورين " ـ واحد من مدرسينا، وله شعر مجعد لكنه مُصفف جيداص ولامع ـ وبيدٍ مرتعشة كان يكتب أسماء الفائزين بالمنح المدرسية خلال السنوات العشر السابقة.
ولقد كانت منحة أكثر منها تكريماً أن يكون فصلنا هو نفسه مكتب ناظر المدرسة      " السيد/ ويرم ".
كان رجلاً حلاسياً مُتقدم العُمر، قصيراً وبديناً، ويرتدي حلة ونظارة مناسبتين له، وعندما يتحمس يكون للاندفاع أقرب حتى أن أنفاسه تتلاحق وتكاد تحتبس عندما يقسو في انتقاده كما لو كان هو مَنْ يُعان.
وفي بعض الأحيان، وربما مِن أجل إبعادنا عن ضجيج مبنى المدرسة الصغير حيث النوافذ والابواب مفتوحة دائماً، ولا يفصل بين الفصول سوى أنصاف حواجز، كان يأخذنا إلى الفناء المترب لنجلس في ظل إحدى الأشجار.
وكان لِزاماً أن يجلب مقعده إلى الفناء ليجلس عليه أسفل الشجرة مثلما يجلس خلف مكتبه الضخم في حجرة الدراسة. وكُنّا نتحلق حوله محاولين الحفاظ على سكوننا.
أما هو فكان ينظر إلى الكتاب الصغير الصادر ضمن سلسلة " كولينز " للكلاسيكيات، كما لو كان كتاب صلاة يمسكه بيديه الممتلئتين، ويقرأ " جول فِرن"
مثل رجل يتلو صلواته.
ولم يَكُنْ كتاب " عشرون ألف فرسخ تحت سطح البحر " مِن الكتب المقررة للامتحان فيها، بل كان وسيلة " السيد/ ويرم " كي يمهد لصف المنحة للبدء في القراءة العامة.
كان يستهدف أن يُقَدم لنا " خلفية عامة "، وفي ذات الوقت اِعْتَبر ذلك استراحة من حشو أدمغتنا ( على اعتبار أن " جول فِرن " مِن الكتاب الذين يحظون بإعجاب الطلبة )، لكن كانت هذه الفترات بمثابة وقت بطالة، فلم يَكُنْ مِن السهل خلالها أن نقف أو نجلس.
ورغم أنني فهمت كل ما قيل حينها، لم أتبع شيئاً منه.
وأحياناً كان الشئ نفسه يحدث لي في السينما، لكن هناك كُنْتُ أستمتع بفكرة وجودي في السينما.
لم أستخلص شيئاً مِن صف دراسة " جول فِرن " تحت إشراف " السيد/ ويرم"، وباستثناء اسمي الغواصة وقائدها لم تحتفظ ذاكرتي بشئ مما تمت قراءته طوال تلك الساعات.
وفي تلك الفترة، ورغم ما سبق، بدأتُ أُبلور فكرتي الخاصة عن ماهية الكتابة.
كانت فكرة خاصة وبالغة الترفُع، ولا صلة لها بالمدرسة والحياة المفككة المزرية التي تحياها أسرتي الهندوسية.
لقد تبلورت هذه الفكرة عن الكتابة ـ والتي جعلتني أطمح لأكون كاتباً ـ مِن خلال القليل الذي كان أبي يقرأه عَلي مِن حين لآخر.
كان أبي قد عَلّمَ نفسه بنفسه بما يكفي للعمل صحفياً. وكان يقرأ وفق منهج يخصه، وفي تلك الآونة كان في بداية الثلاثينات مِن عمره، وما زال يتعلم.
وكان يقرأ العديد مِن الكُتب بذات الوقت، دون أن يُنهي أيّاً منها. ولم يكن يهتم بالقصة أو ما يطرحه الكتاب، بل كان يتقصى السِمات الخاصة بالكاتب أو ما يُطلق عليه "شخصيته" وفي ذلك كانت بهجته، فلقد كان قادراً على تذوق الكُتذاب فقط من خلال دفقات شعورية صغيرة.
أحيانًا كان يطلب مِني الإنصات إلى صفحتين أو ثلاث أو أربع، ونادراً ما يزيد عن ذلك، لكتابة أستمتع بها. وكان يبدأ القراءة والتفسير باستمتاع، وهكذا كان سهلاً عَلي أن أُعجب بما أعجبه.
وبهذه الطريقة غير المعتادة؛ آخذين في الاعتبار الخلفية المتمثلة في : الاختلاط العِرقي في المدرسة الاستعمارية، والاستغراق في الهوية الآسيوية بالمنزل.
بدأت أُدَوِّن مقتطفات أدبية إنجليزية تخصني وهذه بعض المقتطفات التي دونتها بمفكرتي قبل بلوغي الثانية عشرة :
ـ بعض أحاديث " يوليوس قيصر ".
ـ صفحات متفرقة مِن الفصول الأولى لـ " أوليفر تويست " و " نيكولاس نيكلبي" و" دايفيد كوبرفيلد ".
ـ قصة " فرساوس " مِن كتاب " أبطال " للكاتب " شارلز كنجسلي "
ـ بعض الصفحات مِن " طاحونة بمحاذاة النهر "، وهي حكاية مالاوية عن الحب     
   والفرار والموت للكاتب " جوزيف كونراد ".
ـ حكاية أو حكايتين مِن " حكايات الحبيب " لـ " شيكسبير "
ـ قصص لـ " أو. هنري " و " موباسان ".
ـ صفحة ساخرة أو صفحتين عن الجماعات والاحتفال الديني، مِن كتاب
  " بيلاطس الساخر " لـ " ألدوس هيكسلي ".
ـ كذلك صفحة أو صفحتين مِن كتاب يُناقش نفس الموضوع السابق تحت عنوان " إجازة هندوسية " لـ " ج. ر. أكيرلي ".
ـ بعض الصفحات لـ " سومرست موم ".
وبالنسبة لي تُعْتبر أعمال مثل " حكايات الحبيب " لـ " شيكسبير " و " الأبطال " لـ " كنجسلي " ذات طابع بالغ القِدَم وبمثابة ورطة لي.
لكن بطريقة ما، وبفضل حماسة أبي تأكيداً، كُنْتُ قادراً على تبسيط كل ما أُنصِت إليه.
ففي عقلي تأخذ كل المقتطافات ( حتى تلك المأخوذة عن " يوليوس قيصر " ) أبعاد الحكاية الخرافية، وتصبح قريبة الشبه بالأشياء الصغيرة التي قدمها "أندرسن "؛ بعيدة وبلا تاريخ؛ ويسهل التلاعب بها ذهنياً. لكن عندما أتوجه إلى الكُتب ذاتها أجد مِن الصعب أن أتجاوز ما تمت قراءته لي.
فما عرفته تواً كان ساحراً، بينما حاولتُ قراءته بنفسي كان مستغلقاً تماماً.
كانت اللغة صعبة للغاية، وكًُنْتُ أضل طريقي بين التفاصيل الاجتماعية أو التاريخية. ففي قصة لـ" كونراد " يبدو المناخ والنباتات مشابهة لما يُخبط بي، لكن حكايات الملاياو تبدو غريبة وغير واقعية ولا أستطيع تصورها وعندما يتعلق الأمر بالكُتّاب المحدثين، فإن تركيزهم على ذواتهم يبقيني في الخارج ، فلا أستطيع التظاهر بأنني "موجام" في لندن أو " هكسلي " أو " أركرلي " في الهند. رغبت أن أكون كاتباً، ولكن مع هذه الرغبة عرفت أن الأدب الذي شَكّل المُحفز لي إنما هو قادم من عالم آخر، عالم بعيد جداً عن عالمنا.                                

2

كُنّا مجتمعاً مِن المهاجرين الآسيوين نعيش في جزيرة "مستعمرة " صغيرة بالعالم الجديد.
وبالنسبة لي بدت الهند بعيدة للغاية وأسطورية، لكن تلك الآونة لم يكن قد مِرّ سوى أربعين أو خمسين سنة على مغادرة عائلتنا ـ بجميع فروعها ـ للهند.
كُنّا لم نزلْ مشبعين بغرائز سُكان "سهول الجانج "، رغم أنه سنة بعد أُخرى كانت الحياة الاستعمارية التي تحيط بنا تبتلعنا داخلها.
وكان وجودي في صف " السيد/ ويرم " جزءاً من هذا التغير. فلم يسبق لأي من أطفال عائلتنا أن ذهب لهذه المدرسة. وإن كان آخرون قد لحقوا بي في صف المنحة الحكومية، فلقد كُنْتُ الأول.
لازمتني شذرات مِن حكمة الهند القديمة ( القديمة جداً ـ هند القرن التاسع عشر بقُراها، والتي كانت أقرب إلى الهند في القرون الأولى مِن تاريخها. )
ليس فقط في الحياة المغلقة لعائلتنا الممتدة، بل فيما يأتي إلينا مِن المجتمع المحيط بناوكانت أولى النشاطات العامة الكبرى التي أُحِذْت إليها هي الـ " رامليلا"، وهي مسرحية ذات طابع احتفالي مأخوذة عن الـ"رامايانا"           وهي الملحمة التي تتناول انكسار ثم انتصار "راما" البطل الهندوسي المقدس.
وتم عرض هذه المسرحية في الهواء الطلق بقلب حقل لقصب السكر؛ يقع عند أطراف مدينتنا الصغيرة.
وكان الممثلون الذكور عراة الظهر، ويحمل بعضهم أقواساً طويلة، وكانوا يسيرون على أطراف أصابعهم، ثم عند الخروج تصبح خطواتهم سريعة ومرتبكة ( الآن أعود إلى ذكرى قديمة للغاية) عبر منحدر تم حفره بالأرض.
وتنتهي المسرحية بِحرق تمثال أسود ضخم يُمثل ملك " لانكا " الشرير.
كان هذا الحرق أحد الأشياء التي يأتي الناس من أجلها، ولهذا كان النموذج ـ ويصنع بغير اتقان مِن الورق المغطى بالقطران وإطار مِن البامبو ـ يتم نصبه في الحقل طوال الوقت، وذلك بمثابة وعد أن عملية الحرق قادمة.
كان كل ما تحتويه الـ"رامليلا " قد تمّ نقله مِن الهند عبر ذكريات الناس. ورغم أنها مثل المسرح كانت غير ناضجة مما تسبب في غياب أجزاء عديدة مِن القصة عني، أعتقد أن ما فهمته وشعرتُ به خلالها فاق ما كُنْتُ أفهمه وأشعر به خلال أفلام مثل "الأمير" و"بوبر وستون سنةً مِن المجد" والتي كنت أشاهدها في السينما المحلية.
كان هذان الفيلمان من أوائل الأفلام التي شاهدتها دون أن تكون لدي فكرة عن طبيعة ما أشاهده.
لكن الحال كان مختلفاً مع الـ"راميلا" التي قدمت لنا شيئاً واقعياً ووفرة مِن البهجة تتصل بما أعرفه عن الـ"رامايانا" التي تعتبر القصة الرئيسية في العقيدة الهندوسية، فهي الأقرب للتصور مِن بين ملحمتين في ثقافتنا، وعاشت داخلنا بنفس الطريقة التي تعيش بها الملاحم.
فلهذه الملحمة زخم قصصي يتسم بالقوة والتدفق، وحتى في وجود المؤثرات اللاهوتية يظل الأمر بالغ الإنسانية. فمن الممكن دائماً مناقشة الشخصيات ودوافعها، وهكذا كانت هذه الملحمة بمثابة مرجعية أخلاقية لنا جميعاً.
وأصبح جميع مَن يحيطون بي على دراية بهذه القصة أو على الأقل بخطوطها العريضة، وهناك مِنْ يحفظون بعضاً مِن النثر الأصلي لهذه القصة.
ولم تكن هناك حاجة لأن يتم تدريس هذه القصة لي ( قصة العقاب غير العادل الذي أوقعه " راما " على الغابة الخطيرة ) لأنها كانت مشابهة لما خبرته دائماً.
وتتخفي وراء رغبتي في الكتابة رغبة أخرى في أن أكون معروفاً ومقروءًا بمدينتي فيما بعد، مثلما قرأت بطريقتي قصص " أندرسن" و "أيسوب" وما قرأه أبي عَليّ مِن مقتطفات.   
ـــــــــــــــــــ


فيديا سوارج نايبول (ف. س. نايبول): من ترينيدا وتوباجو، 17 أغسطس1932. حصل على جائزة نوبل في الآداب 2001. حصل على الجنسية الإنجليزية، ثم تم منحه لقب سير لدوره في تطوير البلاغة الإنجليزية. من رواياته: «منزل للسيد بيسواس» عام 1964، و«شارع ميجيل» 1967، و«السيد ستون ورفقة الفرسان» 1985.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق