أرض داكنة
جي إم كويتزي
ترجمة: ياسر شعبان
(1)
اليوم أحضر أبى عروسه الجديدة إلى البيت.
جاءا متبخترين أمام المنزل، فى عربة يجرها حصان
بريشة نعام تتمايل فوق مقدمة رأسه، وقد علاه الغبار بعد هذه المسافة الطويلة .. أو
ربما كان يجرها حماران مزينان بالريش، ذلك أيضاً محتمل.
كان أبى يرتدى معطفه الأسود طويل الزيل، وقبعة
سوداء عالية من الحرير.
أما عروسه فكانت ترتدى قبعة عريضة الحواف ورداء
أبيض ضيقا عند الخصر والرقبة ولن أستطيع تقديم المزيد من التفاصيل ما لم ألجأ
للمبالغة، لأننى لم أكن متابعة لهما.
كنت فى حجرتى، خلال فترة الغسق بلونها الزمردى،
أقرأ كتابا أو ـ وذلك أقرب ـ مستلقية بمنشفة رطبة فوق عينى فى محاولة لمواجهة
الصداع النصفى.
فأنا من ذلك النوع الذى يبقى فى حجرته يقرأ أو
يكتب أو يواجه الصداع النصفى.
والمستعمرات تمتلىء بفتيات من هذا النوع، لكن لا
أحد متطرفا مثلى.
وأبى من النوع الذى يروح ويجىء فى خطوات بطيئة وهو
يرتدى حذاءه الأسود طويل الرقبة.
والآن، وللمرة الثالثة، هناك زوجة جديدة والتى
تؤوى للفراش فى وقت متأخر.
وهؤلاء هم الأبطال.
(2)
الزوجة الجديدة.. الزوجة الجديدة امرأة كسولة، ذات
هيكل عظمى ضخم، شهوانية، ماكرة، ولها فم واسع بطىء الابتسام.
عيناها سوداوان مثل حبتى توت، وماكرتان، إنهما
حبتا توت ماكرتان.
امرأة ضخمة بمعصمين دقيقين وأصابع طويلة ممتلئة
ومسحوبة عند نهايتها.
وتتناول طعامها باستمتاع.
إنها تأكل وتنام وتتكاسل.
إنها تخرج لسانها الأحمر الطويل وتلعق دهن الضأن
اللذيذ من فوق شفتيها. وتقول "آه، كم أحب ذلك" ثم تبتسم وتقلب عينيها.
أتابع شفتيها شبه منومة، وعندئذ توجه إلىّ ابتسامة
فمها الواسع وعينيها السوداوين الماكرتين. ولا أستطيع احتمال ابتسامتها بسهولة..
لنا عائلة سعيدة فى علاقتنا ببعضنا البعض.
(3)
إنها الزوجة الجديدة، ومعنى ذلك أن الزوجة القديمة
توفيت.. والزوجة القديمة هى أمى، لكنها توفيت منذ سنوات عديدة مضت لدرجة أننى أذكر
بالكاد فلابد أننى كنت صغيرة جداً عندما توفيت، رما كنت مجرد مولودة صغيرة.
ومن إحدى خزانات الذاكرة البعيدة، أقتطع صورة
رمادية باهتة، صورة لأم حنون، شاحبة وهشة وجاثمة فوق الأرضية.. وأية فتاة فى وضعى
كانت ستسعى لتعويض نفسها.
(4)
زوجة أبى الأولى، أمى، كانت أمرأة محبة، رقيقة
وهشة، عاشت وماتت وهى طوع أمر زوجها.. ولم يغفر لها زوجها أنها فشلت أن تلد له
أبناً.
وأدت مطالبه الجنسية القاسية إلى وفاتها أثناء
الولادة.. كانت هشة ورقيقة لأن تلد ذلك الصبى الواقع والخشن الذى أراده أبى وريثا
له، ولذلك توفيت.. وجاء الطبيب متأخرا للغاية، كان قد تم استدعاؤه بواسطة رسول فوق
دراجة، وكان عليه أن يقطع أربعين ميلا عبر طريق زراعى فى عربته التى يجرها حمار..
وعندما وصل كانت أمى ترقد فى فراش الاحتضار،
مستكينة ـ وديعة ـ شاحبة وعلى وجهها اعتذار.
(5)
لكن لماذا لم يأت ممتطياً حصانا ؟
وهل كانت هناك دراجات فى تلك الأيام ؟
(6)
لم أكن قد تابعت والدى وهو يحمل عروسه عبر
البنايات، لأننى كنت فى حجرتى بالجزء الغربى المظلم منها انهش قلبى فى انتظار فرصة
مناسبة.
كان علىّ أن أقف متأهبة لتحيتهما بالابتسامات
وأقدم لهما الشاى، لكننى لم أكن.
كنت غير موجودة، ولم أكن مفتقدة، لم يعر أبى أى
انتباه لغيابى. فبالنسبة لأبى كنت غير موجودة طوال حياتى.
وهكذا بدلا أن أكون بمثابة الدفء النسائى فى قلب
المنزل، كنت صفراء عديمة القيمة. فراغا يتهاوى كل شىء داخله، كنت تمردا صامتا
وشاحبا مثل قشعريرة تسرى عبر الممرات، مهملة رغم امتلائها بالرغبة فى الثأر.
(7)
المساء حل، وبدأ أبى وزوجته الجيدة يعبثان فى مرح
داخل حجرة النوم.. تضاجعا آملين فى بلوغ ذروة النشوة. تداخلا، واحتوته، وضحكا
وتأوها فى خفوت، كانت أوقات سعيدة بالنسبة لهما.
(8)
فى منزل، قدريا، كان يشبه حرف H عشت حياتى كلها، فى مسرح من الحجر تدخله الشمس ومعها
أميال من الأسلاك الشائكة، تتبع أثرى من حجرة إلى أخرى، وتمر على الخدم، وعلى ابنة
ذلك الخادم الأسمر.. تلك الأرملة المتنمرة.
وغروب شمس بعد أخر، تواجهنا
قبالة لحم ضأن ـ البطاطس ـ اليقطين ـ طعام غبى تطهوه أياد غبية.
هل من الجائز أننا تحدثنا ؟
لا ـ لم نتمكن من ذلك، لابد
أننا واجهنا بعضنا البعض فى صمت، وجدنا ما يشغلنا لتمضية الوقت.. عيوننا، عيناه
السوداوان وعيناى السوداوان اللتان ورثتهما عنه، وهى تدور مملولة فى مجالاتها
للرؤية.
وبعد ذلك توجهنا للنوم،
لنحلم بقصص رمزية عن رغبتنا الخاطئة، مثل أننا حظينا بنعمة أننا غير صالحين
للاستخدام وفى الصباحات نتنافس فى جو من التقشف الثلجى لنكون أول من يخرج للمشى،
لنشعل النار فى حامل الوقود البارد. إنها الحياة فى المزرعة.
(9)
فى المدخل الظليل، الساعة
تدق صباحا ومساء. وكنت الوحيدة التى تفتحها، وأسبوعيا أصحح توقيتها مسترشدة بالشمس
والنتيجة اليومية.
الزمن فى المزرعة هو زمن
العالم الواسع، حيث لا أهمية للشذرة أو الفاصلة.
وعن قصد اتبعت التوقيت
الاستبطائى للقلب، المرتبط بلحظات المتعة وفترات الضجر: وسيعلو نبضى مع كل لحظة
حضارية راسخة وفى أحد الأيام سيأتى طالب لم يولد بعد ويكتشف فى الساعة تلك الآلة
التى نجحت فى ترويض الوحوش، لكن هل سيعرف أبدا بقدر الأسى الذى تحتويه ساعة
القيلولة فى المنازل عالية السقوف ذات اللون الأخضر والباردة، حيث تتمدد بنات
المستعمرات بعيون مغلقة ؟
العالم ممتلئ بعوانس مثلى،
منسيات، زرقاوات مثل أسماك "الروش" فى منازل أسلافنا، يحافظن على بريق
القطع النحاسية وينمن متأزمات.
ونحن صغيرات كن نحتمى
بأبائنا المستبدين، نحن عذراءات قاسيات ولا نصلح لهذه الحياة.
اغتصاب الطفولة، يجب أن ندرس
جوهر الحقيقة فى هذا الخيال.
(10)
أنا أعيش، أنا أعانى، أنا موجودة.
فبالمكر والخداع، إذا كان ذلك ضرورياً، سأكافح ضد أن أكون واحدة من المنسيات.
نعم أنا عانس لدى دفتر
يوميات غير متاح للآخرين، لكننى أكثر من ذلك.
لدى لاشعور صعب، لكننى أكثر
من ذلك أيضاً فعندما تطفأ كل الأضواء، أبتسم فى الظلام.
أسنانى تبرق، ورغم ذلك لن يصدقها
أحد.
(11)
جاءت خلفى، وكانت لها رائحة
زهور البرتقال ومشية خفيفة، وأمسكتنى من كتفى وقالت: "لا أريدك أن تغضبى،
أتفهم شعورك بالاضطراب والحزن، لكن ليس من سبب لذلك.
أود أن نعيش فى سعادة معاً
.. سأفعل أى شىء، صدقا أى شىء، لتحقيق ذلك ـ أتستطيعين تصديقى ؟
كنت أحدق فى فتحة المدفأة،
وانتفخ أنفى وعلاه الاحمرار.
دندنت وهى تدور حولى:
"أرغب فى تكوين أسرة سعيدة، ثلاثتنا معاً. أرغب أن تعترينى أختك، وليس عدوك.
وكنت أتابع الشفتين
الممتلئتين لهذه المرأة اللحيمة.
(12)
فيما مضى تخيلت أننى إذا
تحدثت طويلا ربما يكشف ذلك لى ما الذى يعنيه أن تكون عانساً غاضبة وضائعة.
ورغم أننى كنت أتشمم كل
حكاية أصادفها مثل كلب يتشمم موضع تبوله، لم أجد ذلك التمدد العنيد الذى يمثله
تعبير "كما لو أن" والذى يميز بداية الحياة المزدوجة الحقيقية.
ورغم ما تحملته من ألم
لتشكيل الكلمات التى ستنقلنى إلى أرض الغموض والبطولة، مازلت نفس الشخصية المزرية
فى نفس الصيف الحار والرطب والذى لن يغير نفسه للأفضل.
ما الذى أفتقر إليه ؟ فأنا
أنتحب وأصر على أسنانى. أليس ذلك رؤية مجردة لوجود ثان عاطفى بما يكفى ليحملنى من
حالة الوجود الأرضى إلى حالة من الأهمية المضاعفة ؟
ألا أرتجف مع كل استغراق فى
عاطفة مضطربة ؟
هل يعنى ذلك أن عاطفتى
تعوزها الإرادة ؟
هل أنا، رغم الغضب، مازلت
عانسا قانعة بوجودها فى باحة المزرعة، وواقعة فى إسار رغباتى الانتقامية ؟
هل أرغب فعلا فى تجاوز نفسى؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب من جنوب أفريقيا. حصل
على جائزة نوبل عام 2003
مجتزأ من رواية بنفس الاسم
وهي الرواية الأولى لكويتزي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق