أكاذيب بوش وبلير
هارولد بنتر
ترجمة: ياسر شعبان
في بداية عام 2002 أصيب الناقد والكاتب المسرحي الإنجليزي "هارولد بنتر" بسرطان المعدة، وتم احتجازه طوال عام كامل المستشفيات العلاج الكيميائي لفترة من الوقت قبل أن تتحدد له عملية جراحية لإزالة ورم سرطاني وجزء من المعدة. وبعد تجاوزه لهذه الأزمة الصحية، جلس إلي "رامونا كوفال" وتحدث عن السرطان وعشقه للعبة الكريكيت ومعارضته للحرب علي العراق..
ـــــ نشرت قصيدتك إلي " خلايا
السرطان "في صحيفة الجارديان منذ عام تقريباً" في مارس 2002 "
وكانت بمثابة دعوة لمساندتك في مواجهة
السرطان، أليس كذلك؟
بلي، لقد كتبت هذه القصيدة وأنا خاضع
للعلاج، وخلال جلسات العلاج الكيماوي يجب على
المريض أن يستلقي مستسلماً للممرضة
وهى تغرس الإبرة التي يمر المحلول الكيمائي خلالها إلي ذراعه، خلال إحدى
هذه الجلسات قالت لي الممرضة : الخلايا السرطانية هى تلك الخلايا التي نسيت كيف
تموت.. ودهشت من هذه الجملة وذهبت مباشرة لأكتب قصيدتي … حينها لم أكن أعرف هل
سأموت أم لا، وأعتقد أن هذه القصيدة تعد تمثيلاً دقيقاً لما شعرت به. لم تكن لدى
أدني فكرة عما يمكن أن يحدث، وحقيقة ظللت جاهلاً بالأمر طوال العام لكنني شعرت
أنني يجب أن أقول مثلما اعتادت الصغيرة "ستانزا" أن تقول " أحتاج
أن أراقب ورمي وهو يموت ذلك الورم الذي نسي أن يموت لكنه يخطط لقتلي". وأشعر
بالسعادة لأنني رأيت ورمي ميتاً. وانطلاقاً من تجربتي هذه أرغب أن أرفع قبعتي
لتحية الجراح الذى فعلها، إنه رجل عظيم مثل كل الجراحين.. واعتقد أنه عند الإصابة
بمرض كهذا يحتاج المرء لشيئين ليتمكن من النجاة، يحتاج لجراح ماهر وزوجة استثنائية، وكنت سعيد الحظ جداً لأنني حظيت بكليهما.
وهكذا كان الأمر بالنسبة لي مثل "
حلم أسود / كابوس " كما لو كنت في غابة لا يمكن اختراقها وكذلك لا تستطيع أن
ترى جذوع الأشجار وأنت داخلها. لم تكن لدى أية فكرة عما كان يحدث معظم الوقت خلال
العملية وبعدها.
وكما تعرف لم أمرض قبل ذلك أبداً، وهكذا
كان الأمر استثنائياً بالنسبة لي، ففجأة وأنا في الواحد والسبعين أجد نفسي في
مستشفى أواجه سرطاناً متوحشاً وعملية خطيرة وكل ذلك لم يخطر على بالي.
ـــــ كنت مقاتلاً طوال حياتك، لكن هذه
المرة كان التهديد داخلياً وليس خارجياً.
بالتأكيد كان كلاهما. كان تهديداً
خارجياً لأنه تعين على الجراح أن يفتح جسدي. ولم أدرك ما كان يحدث حتى رأيت الندوب
لاحقاً. لم أعرف حدود ما حدث، وظننت أن معدتي في مكان آخر الآن.
وكذلك كان التهديد داخلياً، كما أشرت،
فلقد شعرت أنني في عالم مظلم لا أستطيع تبينه أو تفسيره. ولم أستطع استيعاب الموقف،
ولذلك ظللت طوال أسبوعين أو ثلاثة في مكان آخر يخلو من البهجة.
كان الأمر كما لو كنت غارقاً في مياه
محيط ولا تستطيع السباحة فيها، كذلك ليس لديك أدنى فكرة عن كيفية الخروج منها، فقط
كل ما تستطيعه أن تطفو. كان كل شئ مظلماً حولي.
في مثل هذه التجربة، غالباً ما يفكر
الناس بشأن الوقت والأولويات، فكيف كان الحال معك خاصة وأنت معروف بالنشاط.. هل
كان هناك عمل أردت القيام به أكثر من غيره، السياسة مثلاً أكثر من الكتابة.. أم
ماذا؟
أعتقد أن أكثر ما شغلني حينها هو كيف
أنجو، كيف استمر على قيد الحياة، كان ذلك اهتمامي الرئيسي وتجسد في حقائق بسيطة
للغاية، مثل كيف استفيد من النشاط عندما يتزايد تدريجياً، وكيف أتحكم فيه، ونفس
الشيء بالنسبة للطعام … الخ. و تكفلت زوجتي بكل هذا.
حقيقة كانت تلك الأمور شغلي الشاغل،
وهكذا لم أكتب سوى قصيدة واحدة.
ما أجمل الكلمات فوق الصفحة، مازلت أعشق
القيام بذلك كما كان الحال منذ ستين عاماً مضت. مازلت أشعر بالإثارة عندما أنظر
إلى الصفحة.
… فجأة بدأت أكتب قطعة صغيرة، لكنها في
أهمية العمل الكبير، ولا أعرف كيف حدث هذا. و آمل أن تكون السنة التالية أكثر
زخماً وأحسن حالاً لأنني أشعر بالتحسن و القوة.
ـــــ هل تظن أنك تغيرت خلال هذه
التجربة؟ هل تظن أن "هارولد بنتر" قد تغير جوهرياً؟
أصبحت أكثر اهتماماً ووعياً بالموت.
وبعد إنهماكي في السياسة لسنوات عديدة كنت خلالها سريع الانفعال، ورغم أنني مازلت
سريع الانفعال، خرجت من هذه التجربة وقد أصبحت لي وجهة نظر منفصلة. أصبحت أرى
العالم بموضوعية أكثر، نعم مازلت جزءاً من العالم لكنني خارجه كذلك وأستطيع أن
أكون شاهداً على العديد من الأشياء التي مازالت على أهميتها بالنسبة لي، فقط أصبحت
شاهداً بعد أن كنت في قلب العالم المضطرب.
ـــــ تحدثت عن استمتاعك أثناء كتابة
قصيدتك الأخيرة. وطوال حياتك كانت اللغة عشقك الأول، و دائماً ما عبرت عن استيائك
من إساءة استخدام اللغة، فما تعليقك على التعبيرات ذات الصلة بمناخ الحرب الذي
سيطر على العالم طوال العام الماضي وكذلك العام الحالي، تعبيرات مثل "التدخل
لحماية حقوق الإنسان" العالم المتحضر و"محور الشر" و"تغير
النظام..".؟
أكثر ما لفت انتباهي كانت جملة
"الشعوب المحبة للسلام "، فعندما سمعت "بوش" يقول :
"باسم كل الشعوب المحبة للسلام سنستمر في حربنا ضد الإرهاب." تساءلت
دهشاً ماذا تعني "الشعوب المحبة للسلام" لم أقابل مثل هؤلاء الناس قبلاً
ولا أستطيع تصور كيف سيبدون. وهكذا اعتبر أن ما يقوله محض هراء. وأعتقد أنك تقصد
مثل هذه التعبيرات و التي أصبحت منتشرة في العالم الغربي.و أظن أنك عندما تنظر إلى
شخص مثل رئيس وزرائنا – وأقر بأنه شخص مخلص للغاية ومسيحي جاد – ستشعر بخيبة أمل
عندما تعرف أنه يؤيد توجيه ضربة أخرى إلى العراق – والتي تعتبر فعلاً أهوج لأنه
عند توجيه ضربة إلى العراق لن تقتل "صدام حسين" وحده، وحقيقة لن تقتله
هذه الضربة لأن لديه ما يقيه منها.وكالعادة ستكون النتيجة قتل آلاف المدنيين
الأبرياء. ولا أستطيع استيعاب ما المبرر الأخلاقي الذي سيقنع "توني
بلير" نفسه به. وأرغب أن يقرر ما إذا كان مسيحياً أو لا، فإذا قلت
"سأقوم بضرب هذا الشعب الملعون دون أي إحساس بالذنب" فلتضربهم، لكن أعلم
أن هذا لا يتفق مع المسيحية كما أعرفها. فعندما تتخذ موقفاً مسيحياً، لا تستطيع أن
تقول ذلك.وهكذا أظن أن ما نتحدث عنه هنا يُعد وضعاً استثنائياً وهرطقة أصولية
وتشويهاً للغة، والتي لحق بها دمار شديد، ويرجع ذلك إلى أن اللغة تقودنا، أليس
كذلك؟، في مجال السياسة و في جميع المجالات كذلك. لكن ما يجعلني أشعر بخطورة
حقيقية، تلك اللغة التي نتداولها مؤخراً، مثل: "التدخل لحماية حقوق
الإنسان" "الحرية" و"الديمقراطية" … وغيرها من التعبيرات،
لأنها لا تهدف إلا للحصول على القوة والهيمنة. وليس من المنطق في شيء أن يقتل أناس
من أجل تحقيق ذلك. وهناك قصة صغيرة يجب أن أحكيها.. منذ عامين وأثناء ضرب
"صربيا" تعرض للضرب سوق في قرية تُدعى "نيس" – وكنت شاهد عيان
لهذا الحدث – وكانت هناك امرأة تجلس وابنتها؛ التي لم تجاوز الخامسة ؛على أحد
المقاعد في ذلك السوق، وفجأة سقطت القنابل- وكانت قنابل أمريكية - وسادت الفوضى،
وسقط حوالي 40 أو 50 قتيلاً في الحال. أما المرأة فعندما بحثت عن ابنتها وجدتها
مبتورة الذراعين وقد تدحرج رأسها وسقط في إحدى البالوعات، والآن لن يذكر
"الرئيس كلينتون" أو "بلير" رأس الفتاة الصغيرة ، وحقيقة لن
يتذكر مثل هؤلاء الناس قطع رأس تلك الفتاة وموتها.
وأعتقد أن "كلينتون" و
"بلير" مجرما حرب، ولا يرجع ذلك إلى عدم شرعية ما فعلا أو منافاته
للأخلاق، بل لأنهما قدما تبريراً له بالحديث عن"التدخل لحماية حقوق
الإنسان" وأظن أننا لاقينا ما يكفي من مثل هذه الادعاءات والأكاذيب.
ــــ قرأت أنك عندما تعرضت للترحيل وأنت
صبي، وتحت القصف، حملت معك مضرب الكريكيت، ويذكرني ذلك بعشقك للعبة الكريكيت ولكن
كيف تستطيع الجمع بين اهتماماتك السياسية و الأدبية و هذه اللعبة؟
حسناً – تعرف أن في حياة كل إنسان
العديد من الاهتمامات ولقد وجدت في الكريكيت شكلاً متحضراً من أشكال الصراع. وفي
العادة يُلعب "الكريكيت" على العشب حيث السماء الزرقاء والأشجار، و وجدت
ذلك مشبعاً. أنا مُغرم بتفاصيل تلك اللعبة
وكثيراً ما أمارسها بمفردي ولقد كنت كابتن فريق الكريكيت في النادي حيث كنت
عضواً. هذه اللعبة تكاد تستحوذ على حياتي.
ــــ أليست لعبة الكريكيت مليئة
بالقواعد؟
بلى هي كذلك بالتأكيد.
ــــــ أليس بالأمر المربك أن يعشق رجل
يميل إلى اختراق القواعد وتحطيمها، لعبة مليئة بالقواعد مثل الكريكيت؟
لم يوجه لي هذا السؤال قبلاً. فأنا
احترم القوانين التي تعمل لصالح الإنسانية، وأظن أن بعض القوانين جيدة وبعضها سيئة
وضارة، أما قوانين لعبة الكريكيت فأراها جديرة بالاحترام.
ـــــ قبلت "وسام الشرف" لكنك
رفضت وسام الفروسية الذي عرضه عليك "جون ميجور" فلماذا قبلت واحداً
ورفضت الآخر؟
أظن أنهما مختلفان كل الاختلاف. فلقد
وجدت أن "وسام الفروسية" شئ لا أستطيع قبوله، ولا يرجع ذلك لأن
"حزب المحافظين" هو الذي عرضه على وقتها، فما كنت لأقبله من أي حزب،
لأنني اعتبر "وسام الفروسية" شيئاً حقيراً وكذلك وجدت أن لقب
"سير" سخيف. لكن الأمر المهم بالنسبة لي أنني شعرت أنه قريب من الحكومة،
فهذه المنحة حكومية. أما "وسام الشرف" فيبدو لي بعيداً عن أية اعتبارات،
وأراه منحة من البلد. فرغم كل شئ و رغم انتقادي أو عدم انتقادي للبلد وما يحدث
فيها أو لــ "توني بلير" أو لعلاقتنا بأمريكا.. الخ، فأنا : "أحب
لعبة الكريكيت"، أعيش في هذا البلد، عشت وعملت في هذا البلد طوال ستين عاماً..
وهكذا فهناك علاقة وثيقة للغاية بيني وهذا البلد.
ويبقى أن أقول إنني تلقيت خطاباً حول
منحى "وسام الشرف" بعد يومين من خروجي من المستشفى، وجعلني أشعر بأن
هناك من يدعمني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق