الاثنين، 30 ديسمبر 2013

تجاوز الحدود الثقافية سلمان رشدي ومادونا.. تجاوزات خطيرة، أكبر أحمد





تجاوز الحدود الثقافية
سلمان رشدي ومادونا.. تجاوزات خطيرة

نشير في هذا الفصل إلى الجدل الدائر حول (سلمان رشدي ومادونا) ليساعدنا على فهم الحياة بعد الحداثية بشكل أفضل.
ويبدو أن قانون "نيوتن الثالث للحركة" لم يكن مفهوماً لهيئة الرقابة البريطانية على الأفلام، عندما منعت عرض فيلم (حروب عصابات دولية)، الفيلم الباكستاني عن "سلمان رشدى" ـ عام 1990.
وكان "نيوتن" قد توصل إلى أن : لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه.
 ورغم ضعف الفيلم من الناحيتين الفنية والفكرية، فإنه تحول إلى مادة للأخبار الدولية بتجاوزه للحدود الثقافية.
وفى يوم وليلة تعلم كل من (شاه زاد جول).ـ المنتج الباكستاني ـ، و (محمد فياض) ـ الموزع في المملكة المتحدة ـ؛ جوهر نبؤة "وارهول Warhol": "في عصرنا هذا سيحظى كل فرد بالشهرة لمدة خمس عشرة دقيقة".
وهكذا نقلت عنهما وسائل الإعلام الغربية، وطلبا في حوارات عديدة. وأوضح (جول) أن الدافع وراء فيلمه أنهم (أرادوا توجيه ضربة مؤلمة لـ "سلمان رشدي"، وأضاف: أننا نعتبره رجلاً متحجر القلب، جباناً ومجنوناً..).
وتمثلت الطريقة التي عبر بها الجمهور عن بغضه لـ "سلمان رشدي" بالتحرش بـ (أحمد أفضل)، الممثل الذى قام بدور "سلمان رشدي" و سبه وضربه في الأماكن العامة.
 وفي المقابل قام (أفضل) بزيارة الأماكن المقدسة في مكة ليبرئ نفسه. واشتكى (فياض) أن القراصنة باعوا فيلمه بسعر (100 جنيه إسترليني) للنسخة، أثناء مثوله وفيلمه أمام "هيئة الحظر".
ولقد وصف الصحفيون الفيلم بأنه (زواج شاذ بين الأصولية الإسلامية وبين التجارة والسينما الشعبية).
والحكاية كلها مجرد تشويه للحقائق، فالفيلم فانتازيا باكستانية خالصة، نجمها "رشدي" الذي يبدو ـ حقيقةـ لا علاقة له بـ "رشدي" فالممثل كانت له خصلة شعر غزيرة في مقدمة الرأس، وكان يقضى معظم وقته في إهانة المسلمين والتشهير بهم، ليبدوا الأمر كمؤامرة دولية لإهانة الإسلام بواسطته. وكان الحرس الخاص الذى يقوم بحمايته إسرائيلي الجنسية، أما "رشدي" فكان قادراً على نسخ نفسه وهكذا ظهرت أربعة نسخ من "سلمان رشدي" تجلس بجوار بعضها تلهو في الديسكو ضمن مشهد واحد. وقد أتاح هذا التناسخ للأبطال أن يتعاملوا بعنف مرات عديدة دون أن يخل ذلك بالحبكة. وفي ذروة الفيلم فشل حتى أشجع الباكستانيين في قتل (سلمان رشدي)، مما جعل تدخل العناية الإلهية في صورة صاعقة هو الحل الوحيد لإنهاء هذه المهمة.
ويقول (جول) في هذا الشأن: إننا مؤهلون لتأويل القصة كما نرغب، بالإضافة إلى أنها خيالية. ويحاكي (جول) بقوله هذا دفاع (رشدي) عن روايته.
ويمدنا مصير الفيلم في "المملكة المتحدة" بحقيقة أخرى أكثر غرابة عن الجدل الدائر حول دراما "رشدي".
وقد حقق الفيلم أكبر الإيرادات الباكستانية خلال السنوات الأخيرة، ويمكن القول بأنه ساعد بشكل فردي على إعادة الانتعاش لصناعة محتضرة، لم تنجح فترات الحكم العسكري والمناخ الفكري العقيم في مساعدتها. وتتسم الأفلام الباكستانية بالحركة السريعة الصاخبة وبالأبطال الخشنين أصحاب الأصوات المرتفعة، وبأشرار يجأرون ويتوعدون طوال الوقت.
ولا يجب اعتبار هذا الفيلم نموذجاً لأفلام جنوب آسيا وللموهبة السينمائية المسلمة، فلقد سبق وأشرت إلى أن بعض الأسماء اللامعة في السينما الهندية ـ أكبر صناعة في العالم ـ مسلمون. وهذا الجزء من القصة من الممكن فهمه، لكن الذي يستعصي على الفهم هو تصرف (الهيئة البريطانية للرقابة على الأفلام)، لأنه استثار عويل المسلمين المبرر تجاه ازدواج المعايير البريطانية، فالبريطانيون رفضوا حظر كتاب (رشدي) مما جعل منع عرض الفيلم بمثابة تناقض.
ويبدو الأمر بالنسبة للبريطانيين محض رغبة لاستغلال الموقف وركوب الموجة، لأن هذا المنع ضمن للفيلم رواجاً واسعاً.


مادونا.. فتاة شهوانية في عالم مادي

يعتبر مجرد سماع اسم "مادونا" واسع الشهرة ـ بمثابة تحد وإهانة لـ "بابا الفاتيكان"، كما تعتبر عروضها احتقاراً للأحاسيس الكاثوليكية، وبالنسبة للمسيحيين الأرثوذكس، فقد شمل الجدل حول "مادونا" المواقف الرثة لفيلم "مارتن سكورزيز": الإغواء الأخير للمسيح.
و"سكورزيز" الذي يعد من أكثر مخرجي أمريكا شهرة واحتراماً، قام بإسقاط الصورة التقليدية عن المسيح، لتصبح سمات مثل (الشك ـ الغموض ـ الجبن ـ سهولة الاستثارة ـ قسوة القلب) من السمات المميزة لسلوكه. وباختصار تحول إلى بطل من الثمانينات.
ويعتبر المشهد الذي يضرب فيه (يهوذا) المسيح بعنف ويشتمه ويصفه بالجبن، مثالاً على المشاهد المثيرة للجدل ويتمركز الغضب المسيحي المتوقع حول الصورة التي استبدلت المسيح المخلص بالمسيح الذكر. ورغم ذلك لا يتجاوز الأمر مسألة أنه محاولة لاستكشاف القصة وفقا لغرض فكري خطير.
وما يهم المسيحيون في "مادونا" هو استخدامها المتعمد للمحاكاة الساخرة في تناولها للمعتقدات الدينية، وميلها الواعي إلى إثارة الجدل.
وبرغم أن مهاجمتها للمعتقدات لم يكن مقصوراً على الكنيسة، فلقد كانت تتعمد استخدام العلم الأمريكي بطريقة أثارت غضب كثير من الأمريكيين الوطنيين، فإن استحضارها الواعي للكنيسة ليعد رغبة في التحريض، ويشتمل ذلك على: ثنائية (العذراء / المومس)، الصليب، عباءات القساوسة، ممارسات الجنس الشاذة مع الحيوانات وممارسة العادة السرية مع شخص يشبه المسيح.
وتحت وطأة غضب الكنيسة، سحبت شركة "بيبسي كولا" عرضاً بخمسة ملايين دولار كانت قد تقدمت به لـ"مادونا" للمشاركة في الدعاية. وكذلك نجح الفاتيكان في إلغاء عروضها في روما.
وعلى ما يبدو، كانت رسالتها مناسبة أكثر من رسالة الكنيسة، وذلك بالنسبة لأتباعها، حسب ما اتضح من تعليقات طلاب "كمبريدج" على "الجماعة الطاهرة" في الجامعة: (وحدث أن عبرت في ظلام ليلة من ليالي الثمانينات، حينما لم يكن في استطاعة الأطفال الذين لا يتوقفون عن التمايل والتلويح؛ أن يطالبوا بالمخدرات و"الروك أند رول" بوصفها حقوقاً مشروعة لهم، وكذلك حينما أصبح الجنس (الأول في ترتيب الثالوث غير المقدس) خطيراً.. و للعجب كان الجنس قد ولد نجماً في الغرب.. واعتبرها الناس شيئاً جيداً، لأنها كانت مصدر بهجة وهى في بؤرة الإثارة ولأنهم كانوا بداخل هذه البؤرة يشعرون بالرضا التام.
وفوق ظهر الأرض، وعبر كل الأجيال، ستظل معروفة باسم "مادونا".. أنصت ولاحظ أن "مادونا"، مثل ابنها الأقل شهرة ولمعانًا، قد وجدت لتمشي على الماء..).
والأهم إعلاميًا هو استغلال "مادونا" ذلك لصالحها بمتعة وتهكم. ومن الممكن اعتبار أن عروضها في "إستاد ويمبلى، في لندن.." وفى برشلونة وطوكيو؛ قد تم تصميمها والفاتيكان في الحسبان.
 فمثلاً أثناء عرضها: (مثل عذراء) صورت النشوة الجنسية من خلال الأداء الحركى الصامت، أما الأغنية التي تستجلب الغضب البابوي بشكل خاص، فهى أغنية (مثل مُصلٍ)التي جعلت كل الذين في الإستاد يصفقون لها وأذرعهم مرفوعة.
 وأغنية (يا أبتي لا تعظ) التي تتناول مسألة الحمل دون العشرين والثورة والعصيان، كررت فكرة المرتد الكاثوليكي بالصلبان معلقة فوق رأسه تتوهج في إضاءة من النيون، وسألت وهي على المسرح مجموعة من الشباب الصغار دفعة واحدة (هل تريدون مضاجعتنا؟!!).
 ويؤكد آخر عرض لها في التليفزيون الأمريكي (أحكم على حبي) وكذلك فيلمها (الحقيقة أو الجرأة: في السرير مع مادونا)، وفى هذا الفيلم ظهرت وهى تلعق زجاجة ماء يفور، وهى تطارح الراقصين المخنثين في الفراش، أن الجدل لن يتوقف.
 وبجانب أن "فلسفة المتعة الهندوسية"، و"المادية المتحررة"، تعد علامات على حضارة وتقليد، فإن الكنيسة والصلب وصورة الأب لا يمكن أن تختفي. فكل عرض لـ "مادونا" تسبقه صلاة.. "أنا روحانية" و"متدينة"، هكذا أخبرت "مادونا" مقدم البرامج "وجان" بخشوع غير متوقع ـ في برنامجه (22 يوليو 1991).
نعم ـ هكذا أجابت عندما سئلت عن اجتماعات الصلاة قبل كل عرض في رحلاتها: "أنا متدينة" وهم مخلصون على الأقل بقدر اهتمامي وتورطي ولا يعني هذا أنني أحاول بناء جسر بين الجنس والدين أو إنني أؤيد موقف الكنيسة الكاثوليكية في إصرارها على الفصل بين الإثنين، وهذا هراء...!!
و"مادونا" هي طفلة عصر ما بعد الحداثة، الإكليشيه، القناع، المنتج الأبهى للثقافة الاستهلاكية. فحياتها وعروضها مثل مسرح باليه. و وعيها أسلوبها، إيماءاتها ومواقفها الجنسية كلها موجهة مباشرة إلى جموع أتباعها بامتداد العالم.
وتصيب "مادونا"، الفيلسوفة الشعبية لثقافة ما بعد الحداثة، هذا الوعي بقوة عندما تترنم بصوتها الضعيف أحادي النغمة: (أنا فتاة شهوانية في عالم مادي).
وإذا كانت (مارلين مونرو) وقعت تحت سطوة الإعلام الذي دمرها، فإن "مادونا" تتحكم في الإعلام وتعبر عن نفسها من خلاله.
وما أكده (وارين بيتي) في قوله: إنها لا تستطيع الحياة بدون كاميرا، أمر صحيح، فهى تستمتع بالسيطرة الكاملة كما يتضح من قولها (أنا أستدعي اللقطات) في برنامج "سيارة بى بى سى ـ أحد برامج التليفزيون البريطاني ـ 7 ديسمبر 1990".
لكن مستوى علاقة التبادل بين "مادونا" والإعلام ليس ملهماً لأنها نادراً ما تفارق خصرها. ولهذا علاقة بإجابتها على سؤال أحد الصحفيين (ما حجم صدرة "وارين بيتي"؟) فأجابت: لم أقسها، فلماذا لا تسأله؟!!
وعندما سئلت عن الجملةالتي تمثل فلسفتها في الحياة، أجابت (القيح يغطي العالم). ولا تعني لها هذه الجملة أية استعارات أو تشبيه أو مجاز، وإنما تعنيها حرفيًا. كما في الفلسفة.
و"مادونا" الآن مادة للدراسة المكثفة فهناك العديد من رسائل الدكتوراه معدة عنها، ومنظرو النسوية المتحمسين قاموا بهدم صورتها في وعي أتباعهم. أما مناصرات (ما بعد النسوية)، الأقل نقداً لها مؤخراً، فيشعرون أنها تدافع عن دور مملكة الجنس التي تتحكم في الجنسية الأنثوية. وفي استفتاء لاختيار "المرأة الجديدة" اخترن "مادونا" بوصفها (نموذج) التسعينات. وبهذا الشأن كتبت "نانسي فرايداي" في الجارديان الأسبوعية بتاريخ (12 أكتوبر 1991) مقالاً بعنوان: (فانتازيا الجنس في التسعينات) وهذا ما جاء فيه: (ثمة علامات تدعو للتفاؤل. فهناك جيل جديد من الشباب يتخذ المغنية والراقصة "مادونا" أيقونة، و هي تقف بيديها أعلى فخذيها واعظة أخواتها بأن : مارسن العادة السرية.
ولا تعتبر "مادونا" فانتازيا الاستغناء الذكوري، رغم أنها كذلك، ولكنها بالإضافة إلى هذا تحتوي المرأة الجنسية والمرأة العاملة، وأزعم أنك تستطيع إضافة الأم أيضاً، فأنا أستطيع رؤية "مادونا" تحمل طفلها على ذراعيها بينما كفاها مازالا على فخذيها..!!)
وتذهب الشطحات الأكاديمية، في مجاراة للشخصية المنحرفة للعاهر والراهبة، إلى أن "مادونا" قد ساهمت بفاعلية في التاريخ النسائي، فقد أعادت الالتئام والتوحد إلى شطري المرأة: مريم.. العذراء المباركة والأم المقدسة، وماري المجدلية المومس.. وبالإضافة إلى هذا ـ فإن مساهمة "مادونا" الثقافية الأقدر على البقاء، وربما تعود إلى أنها قد أدخلت الفتنة المحرمة للجمال المثير للتصورات وشهوانية منطقة البحر المتوسط إلى (النسوية الأنجلوساكسونية) بجفافها وتحكمها وولعها بالكلام. وهذا ما دعى حتى الإكونوميست،التي تتميز بالجدية والسمو في آرائها (الذي يعود في جزء منه إلى طبيعة كتابها) إلى إسقاط الحرص والتورط في الرطانة بعد الحداثية الوقحة، ويتجلى ذلك في الجزء المنشور (بتاريخ 27 يوليو ـ 2 أغسطس 1991) وربما الأكثر أهمية، أنها أهملت أكثر أسئلة ما بعد الحداثة خداعاً عن (الأصالة والمعاصرة) وهو ماذا يهم أكثر: أن تبدو أصيلاً أم أن تبدو متحققاً؟
ومكانة "مادونا" بوصفها الشخصية الأكثر شهرة، مازالت آخذة في الازدياد برغم من معارضة الكنيسة. لدرجة أنها خطفت الأضواء في مهرجان (كان) للأفلام (عام 1991)، كما يظهر مما كتبه الناقد ـ المولع بها ـ بعد مقابلة معها: (فى الإمكان أن تشعر بسطوة حضورها من على بعد عشرين ميلاً، إنها النجمة الوحيدة في المدينة) ـ (روبيرت ساندال، لنصبح ميتافيزقيين، صنداى تايمز).
لكن "مادونا" تبدأ في إفساد كل شيء عندما تصدق نفسها وتأخذ الأمور بجدية، فتتناول مسألة سعيها لمنصب الرئاسة.. ولم لا؟ فـ (رونالد ريجان) لفت انتباه نجوم هوليود ليقتفوا أثره.
ورغم سطوة أشكال الإعلام الهائلة والجبارة وضجيج وفورة الـ "بوب" وبريق الأضواء، ثمة خواء في الداخل.. فجوة فارغة وباردة ومعتمة، الحقيقة التي لم يستطع حتى (وجان Wogan) بحواره المهذب المتميز ـ أن يمنع كشفها سريعاً أثناء عرض برنامجه.
وحالة عدم الاحترام الاستفزازية، الإباحية الواضحة، إغواء الحواس الصارخ، الاحتفاء بالمادية، و الفراغ تحت كل هذا، يضيف إلى الصورة المزيد، مما يجعلها أبعد ما تكون عن النموذج المسلم.
ومجرد أن لـ "مادونا" معجبين، بغض النظر عن عددهم المحدود، في القاهرة وكراتشي، جدير بأن يزيد من حالة الإزدراء والترفع لدى المسلمين لأنها تؤكد مدى الحاجة لحماية الحدود الثقافية. وفي هذه الحالة سيعبر المسلمون والأرثوذوكس عن اشمئزازهم وشجبهم، مثل البابا، لشخصية "مادونا" العامة. لأنها تعد بالنسبة لهم بمثابة تجسيد لعصر ما بعد الحداثة في الإعلام الغربي، وملكته الفاتنة التي بها مس شيطاني (و في عام ـ 1991 ـ خرجت المظاهرات تحتج وتعلن رفضها لشائعة أن "مادونا" ستزور باكستان..).


تجاوز الحدود الثقافية

ولم تكن (الهيئة البريطانية للرقابة على الفيلم) هي الوحيدة التي اكتشفت مخاطر تجاوز الحدود الثقافية. فثمة مثالان آخران يقدمان موقفاً شيقاً وموازياً، شخصيتان محترمتان تماماً تفاعلتا مع ما اعتبرتاه استفزازاً لبيئتهما الثقافية، وهما : (آية الله خوميني)، و (بابا الفاتيكان).
فقد أدان (آية الله خوميني)، (سلمان رشدي) لأنه اعتبر كتابه نوعاً من التجديف. وأدان بابا (الفاتيكان)؛ (مادونا) بسبب أغنياتها. وبوصفهما على قمة نظام ديني موقر، قام كلاهما بالدور الذي يتوقعه أتباعهما.
فأي رجل دين مسلم كان سيتعامل مع الكتاب بنفس طريقة (آية الله خوميني)، وأي قس كاثوليكي كان سيعتبر أغنيات (مادونا) شيئاً سخيفاً ومقرفاً.
ولأن (رشدي)، (مادونا) ينتميان، أو كانا في وقت ـ ما ـ إلى ديانتهما الموقرتين فهذا مما جعل الأمور أسوأ بالنسبة لهما.. فسابق الانتماء هذا هو سبب الاقتناع بأنهما تجرآ ببرود على معرفتهما الداخلية، مما أضاف إلى إدانتهما.
وعلى الجانب الآخر، يرتكز المدافعون عن المؤلف والمغنية، في نقاشاتهم، إلى الحق في التعبير الحر بالنسبة للفكر والفن. ويظهر حجم السخرية في أصواتهم مدى عمق اقتناعهم بذلك.
وما لم يستطع (آية الله خوميني) ولا (بابا الفاتيكان) توقعه هو أن احتجاجاتهم سيكون لها أثر مضاد لما انتوياه، فمبيعات كتاب رشدي التي كانت تعاني من الركود، أصبحت من بين أفضل المبيعات، والإقبال على شرائط مادونا بلغ القمة. كل ذلك لأن اهتمام وسائل الإعلام هو حلم أية دعاية، والإدانة هى القاعدة الدولية والذهبية لجذب الإعلام، والتي قال عنها (وايلد): (قل أي شيء طالما تنطقه بصورة صحيحة).
وعلى كل بالنسبة ل"سلمان رشدي" كانت الفتوى كابوسًا يطارده، جعله يقضي حياته مترقباً تحرك الشخص الذي سيغتاله.
 ومن الواضح، أنه بالنسبة لرشدي ومادونا ثمة حدود قومية وفكرية وثقافية قد تم تجاوزها، ومنها: التقاليد، احترام الإله، القدرة على التضحية باسم الدين والتي تميز المجتمع الإيراني الآن.
والعكس صحيح بالنسبة للمثقف البريطاني، فالميل للهجاء سمة رئيسية في التعليق الإنجليزي، وكلما كان لاذعاً في سخريته كان الأفضل.
وبين المسلمين، تتسم الفكاهة بأنها شخصية وأقل همجية، ومن السهل إساءة استقبال النكات.
ولا يعني ذلك أن ميل الإنجليز للهجاء والسخرية مقصور على المسلمين، فهم يسخرون بشكل اعتيادي من الاسكتلنديين، الإيرلنديين والألمان، وقبل الجميع يسخرون من أنفسهم.
وتضمحل روح الدعابة الإنجليزية لحد غيابها في (النكات)، تجاه العائلة المالكة (مازالت النكات السمجة عن أذني الأمير تشارلز منتشرة ويتناقلها الناس..)، والملكة الأم، السياسيين، والطقس.
والجدير ذكره أن كلمة (آية الله) بمثابة قانون في إيران، يحترمه الشيعة في كافة أنحاء العالم. وإذا قدر لـ (رشدي) أن يتواجد في إيران وقت (الفتوى) كان سيواجه مصيره المحتوم.
ومجرد إعلان الفتوى وذيوعها ضد (مواطن) في بلد غير إسلامي، يشير إلى أن (آية الله) قد عبر إلى ميدان تنافس مختلف بقواعد وقوانين مختلفة.
وكان هذا العبور بالنسبة لمسلمي بريطانيا صعب التفسير لما يتسم به من صيغة غامضة بالإضافة إلى إنه يستثير التطرف الثقافي.
وبالطبع ضايقت وأثارت مقاطع كثيرة في الكتاب؛ معظم المسلمين، ولكنهم لم يجتمعوا كلهم على الرغبة في رؤية المؤلف مقتولاً.
والخلاصة ـ فمثل هذا الغموض الساحر الذي يشبع وسائل الإعلام: راديو، وتليفزيون، أخبار، كوميديا ـ وهى المقاييس الرئيسية للثقافة الشعبية ـ هو ما زاد من صخب قضية رشدي..!!
وفي بداية عام 1991، ثار جدل آخر، كان أن ينتهى بتهديد آخر بالموت لمؤلف ووجه إعلامي نجاح في عبور كل الحدود وكان ذلك في أمريكا الجنوبية وضد (جابريل جارثيا ماركيز) رائد الواقعية السحرية ومؤلف الرواية واسعة الانتشار (مائة عام من العزلة).
وفى عمله الأخير (الجنرال في متاهته 1991) استفز مشاعر الأمريكيين الجنوبيين المولعين بـ (سيمون بوليفار)، الذين احتجوا على طريقة معالجة شخصية بطلهم في الرواية. فاللاتينيون يعتبرون (بوليفار) مقاتلاً نبيلاً وسياسياً ملهماً، كان متلهفا على توحيد المنطقة من (بنما) إلى (بيرو) في أمة واحدة تعدعى (كولومبيا العظمى) ولهذا لم يتحملوا تصويره شخصية ضعيفة روحياً وفيزيقياً، سهلة الإنقياد تمزقها الهواجس والميول الشهوانية والعواطف المشبوبة.
وهكذا يتضح كيف أن تماهى الحدود الثقافية الناتج عن شبكة الاتصالات الحالية من الممكن أن يؤدى إلى إساءات فهم مدمرة بين الشعوب المختلفة، ويصعب توقع آثار هذه التماهياتالتي تتسم بالخطورة.
وهذا ما حمله تحذير (دانتى): تنازل عن كل الآمال يا من تريد الدخول، لمن ينتوى المشاركة. فدائما يحرف الإعلام ويشوه كل شيء بحياد غامر، بلا أدنى احترام للأفراد. وهناك دائما المقربون والمكروهون من الإعلام أما الشخصيات الرسمية مثل (آية الله) أو (البابا) فغالبا ما يحسبون من المكروهين.
وتساهم مناقشة مسألة (التجاوزات الثقافية) في تخفيف مخاطر التعامل مع الإعلام وتساعد على تفسير المواقف معيارية التقييم تجاه ما يعرضه من صور.




















المواجهة والصدام، أكبر أحمد




المواجهة والصدام

نتناول الآن المواجهات الكبرى بين الإسلام والغرب. وفى سبيل تحقيق ذلك سنقدم مراجعة متعمقة تلقى الضوء على حالة تبادل الكراهية الفطرية فى الوقت الحاضر بين كلا الجانبين. وسوف نبحث مسألة الميراثالاستعماري الأوروبي ؛ ثقافياً وسياسياً ؛ وأثره على المسلمين.
وسوف أركز على جنوب آسيا لأنها تعد مسرحاً لأكثر المواجهات وضوحاً وتشويقاً ؛ بين أوروبا وآسيا من جهة وبين المسيحية والإسلام. وسوف يفسر هذا بعض التناقضات في المجتمع المسلم التي تخلقت خلال تكوين "الحداثة" فى هذه المجتمعات.
وعند تعاملنا بمزيد من التقدير مع عمليات التحديث التى شكلت هذه المجتمعات ؛ سنصبح قادرين على استحضار سماتها بعد الحداثية بوضوح وجرأة. فالتجاور وتخليق ثقافات متنوعة ؛ التهكم والاستهزاء ؛ جميعها تنتمي لما بعد الحداثة. وكذلك الحال بالنسبة لرفض المراكز السياسية القوية والمطالبات الصاخبة للاعتراف بالجماعات الأهلية. وسوف نستكشف ونتحرى كلاهما فى هذا الفصل ولكن فى البداية سنعلق على المواجهة التاريخية بين الإسلام والغرب والاهتمام بأمر هذه المواجهة ليس من قبيل التخدير ولكن لأنها مركزية بالنسبة لفهمنا لهذه العلاقة.

الإسلام والغرب: مواجهة ثالثة من النوع المغلق

يروى "إدوارد جيبون" حكاية سمجة عن المسلمين وذلك فى كتابه (انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية) إنه عندما خرج المسلمون الأوائل من شبه الجزيرة العربية فى القرن السابع ووصلوا إلى الإسكندرية أرسلوا إلى الخليفة يطلبون منه التعليمات الخاصة بالمكتبة المركزية الشهيرة "مكتبة الإسكندرية". وأجاب الخليفة بما يلى: (إذا كانت الكتب متفقة مع القرآن فهى غير مهمة ويمكن تدميرها ؛ أما إذا كانت تتعارض مع القرآن فهى كتب خطيرة يجب تدميرها) وبالطبع هذه قصة مشكوك في صحتها ؛ وحتى "جيبون" شكك فى ذلك. ورغم هذا فهى تمهد لتكوين صور سلبية عن الإسلام في فترة مبكرة تاريخياً ؛ وتخبرنا كيف كان غير المسلمين يرون المسلمين وكذلك كيف أن المسلمين غير قادرين على إدراك الطريقة التي ينظر العالم بها لهم.
النقطة العمياء بالنسبة للمسلمين ؛ وهى عدم القدرة على إدراك كيف يراهم الآخرون ؛ خلقت تاريخاً شعورياً مزيفاً من الاعتداد بالنفس فى المجتمع الإسلامي.
 وعلى كل ـ فصور المسلمين فى التليفزيون والصحف والموت فى عيونهم ؛ والكتب المحترقة فى "برادفورد" ليست اختلاقاً خيالياً. ويضيف البعض لحادثة "برادفورد" ما يلى:
ـــ قتل الليبيين لرجل بوليس فى لندن.
ـــ اختطاف الفلسطينيين لطائرات ركاب.
ـــ حصار الإيرانيين للسفارات الأجنبية.
ـــ تفجيير الأندونيسيين لمعبد "بوروبادار" فى جزيرة جاوة.

وهذه رؤية (ف . س . نايبول) للإسلام؛ والمشار إليها فى أماكن أخرى : (الغضب والحماسة هى ما رأيته .. المسلمون مخبولون بإيمانهم المشوش) ـ بين المؤمنين؛ رحلة إسلامية؛ 1981 ـ
    ولكن كان هذا هو موقف "نايبول" فى وقت مبكر. فبعد عشر سنوات بدأ يلين فى هجومه على الإسلام والهندوسية فى الهند. ـ مليون تمرد الآن 1990 ـ
وتنبثق هذه الصور؛ جزئياً؛ عن فهم منقوص للإسلام بين غير المسلمين ؛ وكذلك عن فشل المسلمين فى التعبير عن أنفسهم. وكثير من الصور السلبية عن الإسلام لا ترتكز على حقيقة أو سبب. ولكن كما قال "جونسون": "التحامل لا ينهض على حجة لا يمكن دحضها بالنقاش".

المواجهة الحالية بين الإسلام والغرب:
    تعد حادثة إحراق الكتب فى (برادفورد) بمثابة المواجهة الحالية بين الإسلام والحضارة الغربية لأنها تكشف عن الفجوات الشاسعة فى الفهم بين الجانبين : العنف والعاطفة المشبوبة فى جانب ؛ وجدار عدم الفهم على الجانب الآخر . وتشمل المواجهة بالإضافة إلى الأسئلة الخاصة بالمعتقدات والممارسات الدينية ما يتعلق كذلك بالقوة والسياسة. حضارة كاملة هى ما تشتمل عليه هذه المواجهة.
وعلى السطح ــــ تبدو الحضارتان قويتين وواثقتين.
    ولنأخذ كمثال الحضارة الإسلامية : فهي تتكون من حوالي أربع وأربعين دولة (تصل إلى خمسين عند إضافة الجمهوريات السوفيتية بآسيا الوسطى) وتعداد سكانها حوالي بليون نسمة (ويميل المسلمون إلى زيادة هذا العدد) وحمى الثورات السياسية فى كشمير ؛ الجانب الغربي ؛ و آسيا الوسطى تشير إلى حيوية هذه المجتمعات.
    وفى فرنسا حوالي مليون مسجد ومثلها في إنجلترا (العديد منها كان شققاً وحجرات).
    وهناك حوالي ستة ملايين مسلم في أوروبا الغربية وحدها (ما يزيد على مليون في المملكة المتحدة) وتسهم هذه الأعداد تضخم من أهمية الإسلام في أوروبا. و بعيدًا عن المجموعات الصغيرة من المسلمين المحليين ؛ فإن معظم المسلمين مهاجرون أو أحفاد مهاجرين. ولكن النقطة المهمة في هذا الموضوع أنهم جاءوا ليبقوا وهذا يعنى أنهم أوروبيون.
و تصطبغ المواجهة الحالية بالمواجهتين السابقتين:
  المواجهة  الأولى دامت عدة قرون ؛ وبدأت بظهور الإسلام ووصول جيوشه إلى (صقلية وفرنسا) ؛ وفترة الحملات الصليبية . وانتهت فى القرن السابع عشر عندما توقف الزحف العثماني على حدود فيينا.
    ولقرون كان التفاعل بين الحضارتين عميقا عند بعض النقاط وهامشياً عند نقاط أخرى، وخلق فى أوروبا صورة عدوانية للإسلام. وبالعكس ـ كان لهذه المواجهات تأثير طفيف خارج المناطق المسلمة فى الشرق الأدنى والأوسط. ففى الهند الموجالية أو أندونيسيا ؛ على سبيل المثال ؛ كانت الحضارة الغربية ترى بوصفها بعيدة ومحايدة حسب ما كان ينقله التجار والبحارة.
    المواجهة الثانية ـ في القرن الأخير ـ أصبح العالم الإسلامي بأكمله تحت السيطرة الاستعمارية للقوى الأوروبية . ويرجع قصر المواجهة الثانية إلى ضراوتها. فرغم أنها استمرت قرناً ؛ فإن تبعاتها كانت مدمرة ؛ ومازالت بيننا بطرق عديدة حتى الآن. فلقد تأثرت الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية ؛ وجزئيا أصابها التدمير. وتباينت استجابات المسلمين ؛ ومن بينها صعود النزعات القبلية ؛ فمن السودان حيث قاد (المهدى) المقاومة ؛ وإلى (سوات SWAT) حيث حولها (الوالى Akhund) إلى رمز ؛ بدا رد فعل المسلمين متشابهاً.
    ومثل هذه الاستجابات الجريئة المشبوبة ؛ وأحيانا الانتحارية ؛ خلقت صوراً رومانسية للمسلم القبلي فى الغرب بوصفه (المتوحش النبيل) : (البربى في شمال أفريقيا) ؛ (البدوي في الشرق الأوسط) والبتهانى "أفغاني مقيم في الهند" في شمال الهند.
    وعند نهاية المواجهة الثانية ؛ بعد الحرب العالمية الثانية ؛ عندما بدأت الأمم المسلمة تظهر بوصفها قوى مستقلة ؛ بدأ الاختلاف يتجلى بين الحضارة الغربية المنتصرة باندفاعها تجاه التقدم ؛ وبين الحضارة الإسلامية المرهقة والمعذبة بفقدان الثقة المبكر وكذلك فقدان الاتجاه.
فما هي الأهمية التي مازال العالم العربي يمثلها للقوى الاستعمارية الغربية؟ أهم شيء على الإطلاق هو خلق الحدود السياسية وفقاً للتصور الأوروبي.
والعرب في الشرق الأوسط ؛ على سبيل المثال ؛ لديهم سبب وجيه لتوجيه اللوم إلى الدخلاء كمتسببين فى مشاكلهم السياسية.
    وفى الحقيقة حتى مصطلح الشرق "الأوسط" يعود لأوروبا ؛ لأنه بالنسبة للهنود نفس المنطقة يمكن دعوتها بـ "الغرب المتوسط".
ولنأخذ أهم قضية محورية فى السياسة المعاصرة فى الشرق الأوسط : (الصراع العربي الإسرائيلي) فهو بشكل عام يعتبر مصدراً لكل الشرور التى جلبت من شتى أنحاء العالم إلى المنطقة. وفى قلب هذا الصراع نجد أصل وطبيعة دولة إسرائيل.
 ومن المفيد أن نذكر بأنه فى بداية الحرب العالمية الأولى ؛ وبرغم مرور نصف قرن على الهجرة من أوروبا ؛ كان عدد اليهود فى فلسطين حوالي (80 ألف نسمة) مقارنة بعدد العرب الذى كان حوالى (650 ألف نسمة). واليوم انقلب التوازن الديموجرافى تماماً.
    وفى إسرائيل المعاصرة ؛ يعانى العرب من : الهجمات المتكررة ـ ظلم الدولة ـ حظر التجول الدائم، ويظهر هذا طول الطريق الذي قطعه البطلان الرئيسيان:
العرب  الذين يرون إسرائيل كسرطان زرعه الغرب فى أجسادهم ، و يتأملون حجم الاختلاف الذى كانت ستبدو عليه منطقة الشرق الأوسط  إذا ما قبل المجلس اليهودي العرض الإنجليزي ـ فى عام 1903 ـ بإقامة دولتهم في (أوغندا). وبناءً على هذا يعتبر الغرب بمثابة قوة مؤثرة فى القضايا العربية.
    وحتى بالنسبة لمسلم مثل (الأغاخان) الذي يتجنب ـ بكثير من الشكوك ـ الجدل السياسى، ويعرف بأنه متعاطف مع الغرب ، سنجد أنه يهتم بمسألة العلاقة بين الإسلام والغرب. فهو يشعر أن الإسلام بوصفه تهديداً للنظام ؛ وقوى ظلامي ؛ ليس تصوراً بعيداً عن العقل الغربي:
    بالنسبة للإسلام الذي يشمل مثل هذه المنطقة الشاسعة من العالم بهذا التعداد السكاني ، فإن المجتمع الغربي لن يرضى بضعف معلوماته والمعلومات المغلوطة عن العالم الإسلامي. يجب عليهم أن يبتعدوا عن الفكرة العامة بأنه في كل مرة ثمة حريق فى الدغل أو ما هو أسوأ من ذلك ؛ كتمثيل للعالم الإسلامي . وطالما هم من جعلوا هذه الفكرة العامة تمثيلاً للعالم الإسلامي؛ فإنهم يدمرون أنفسهم وعلاقتهم بالعالم الإسلامي ذاته لأنهم يعيدون إرسال رسائل غير صحيحة. وهذا ما أطلق عليه (خواءً معرفياً) وهو مؤذ لكل طرف (ـ أحمد 1991 ، الجارديان- ).
والمواجهة الحالية ؛ بكونية الثقافة الغربية وانتشار تقنياتها ؛ تعد من أقوى الهجمات الضارية على حضارة المسلمين حتى الآن ، وذلك لأنها ليس شكل محدد ؛ وتظهر فى أبعد الأشكال عن التوقع وفى أكثر الأماكن بعداً عن توقع أن يكون الإسلام مهدداً وعرضة للهجوم.
    فقناة الـ (VCR) والتليفزيون لا تحتاج إلى جواز سفر أو فيزا ، ويمكنهما غزو أكثر المنازل عزوة ، وتحدى أكثر القيم تقليدية. وفيما يخص شخصيتهما ومنشأهما ؛ كلاهما جزء من الحضارة الغربية. الحضارة الكونية : انتصار الغرب.
    فى الحاضر يمثل الغرب بوتقة لكل جديد؛ وذلك بوصفه ثقافة كونية ؛ كلاً متحداً يستحث على النمو حتى يعرف بما يطلق عليه التطورات بعد الحداثية ، ونطلق عليها حضارة "الغرب" لأن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية ـ ويسيطر فيها البيض ـ تمثلان جوهرها ؛ بما تقدماه من أفكار واكتشافات تقنية دفعت بهذه الحضارة للانطلاق. وضمن هذه الحضارة تلعب المملكة المتحدة ـ كما أشرنا سابقاً ـ بوعى دور الإغريق بالنسبة لـ "روما"/ الولايات المتحدة ؛ بمحافظتها على علاقة خاصة معها. كذلك تلعب اللغة الإنجليزية دوراً مهماً فى هذه الحضارة.
ومن الناحية الجغرافية ؛ تضم هذه الحضارة دولاً غير غربية مثل (أستراليا وإسرائيل) ؛ وكذلك شعوب غير غربية مثل "اليابان".
وبعد ظهور "جورباتشوف" بحث الاتحاد السوفيتي عن مكانه فى هذه الحضارة.
وهناك حضارات أخرى ؛ حتى تلك التي تتميز بتقاليدها الخاصة مثل الهند وجنوب شرق آسيا ؛  سقطت في الإغواء بسعادة.
    وإذا كان للشعوب غير الغربية تحفظات جادة على بعض الاتفاقية / الصفقة ؛ مثل سيطرة أمريكا ؛ سوف يقبلونها لما تقدمه من أشياء أخرى ، مثل : الديمقراطية ؛ حقوق الإنسان ؛ التعليم.
    وهكذا فبينما المفكرون الآسيويون العظماء ـ المنتمون للطبقة الوسطى ـ الهنود من دلهي واليابانيون من طوكيو ؛ يناقشون في قاعة الاستقبال الآثار الضارة للثقافة الغربية على مجتمعاتهم ، فإن أطفالهم الذين يرتدون الجينز وكاب البيسبول على رءوسهم ؛ وبالكوكايين فى متناول أيديهم ؛ سوف يخبرونهم أن يتوقفوا عن هذا الضجيج لأنه يريدون متابعة الحلقة القادمة من (توين بيكس Twin Peaks) فى التليفزيون.
    و يمكن أن يغفر لشخص أفريقي أو آسيوي يعيش فى قرية ؛ إذا ظن أن الناس فى هذه الحضارة يمكن الاستعاضة عن أحدهما بآخر من حيث  ثقافتهم وسمات وسائل الإعلام ؛ وملابسهم وزيجاتهم وطريقة حياتهم ؛ وذلك لأن البيض جميعاً يبدون متشابهين.
    والعلامات الرئيسية هى "النجوم الكونيون" المعروفون فى أرجاء الكوكب ،فالبرنامج الجماهيري "جيران" في التليفزيون الأسترالي يمكن إعداده وتقديمه فى أمريكا ؛ وكذلك (حراس الشاطئ) الأمريكي يمكن إعداده في أستراليا. فالروابط بين الممثلين ـ والأكاديميين ـ عبر البلاد في هذه الحضارة أقرب مما كانت عليه فى أي فترة من التاريخ، وما يجعل التغير اللحظي في الأفكار؛ الصور؛ القيم؛ ممكناً هو معجزة الاتصالات الحديثة ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية.
   و نحن إذ نستخدم هذه المصطلحات بميوعة و تبادلية: "الحضارة الكونية"؛ "الغربية"؛ "الدول السبع الكبرى" ؛ "الولايات المتحدة" ؛ "المملكة المتحدة ،بينما كل منها تمثل مجموعة مشكلات.
    أشرنا فيما سبق أن أستراليا تتماثل ثقافياً وعرقياً مع الغرب رغم أنها جغرافياً لا تنتمي له . و"ألمانيا" ـ ألمانيا الجبارة ـ لها نصف شرقي ؛ أقل تحضراً ؛ يعوق نموها . وعلى كل ؛ فيما يخص أهدافنا ؛ فإن الحدود الثقافية بين الدول التي أشرنا لها تتسم بالمرونة لأنها تحتوى على شعوب متنوعة تمثل الكوكب بأكمله ؛ وقد نصنفها في هيئة الحضارة المهيمنة على العالم.
    ويمكن أن نزعم أن "الوضع المركزي" منحته لهم الأمم المتحدثة بالإنجليزية : الولايات المتحدة ؛ المملكة المتحدة ؛ كندا ؛ وأستراليا.
وبشكل سطحي تقدم هذه الحضارة بوصفها "استهلاكية" ؛ مخدرات ؛ أزياء ؛ متعة ؛ موسيقى ؛ روك ؛ برامج تليفزيون ؛ أبطال شعبيين ؛ احتفالات إعلامية.
    ولها كذلك مكان مقدس يحج إليه ؛ تمثله "ديزنى لاند" التى تشبه "الفاتيكان" للكاثوليكيين ؛ و"مكة" للمسلمين و"أمريستار" للسيخ. ويمكن أن تنسخ "ديزنى لاند" فهناك اثنتان منها في أمريكا ؛ و واحدة في اليابان ؛ وأخرى في فرنسا (وتلك الموجودة فى اليابان تدعم وجهة نظري بأن بعض المجتمعات غير البيضاء تحاول اكتساب صفات الغرب في الحضارة الكونية).
    وعلى كل فإن "دالاس وديناسيتى" ؛ "ميكى ماوس وإى تى" ؛ "الكوكايين والجينز" جميعها رموز سطحية لهذه الحضارة .
 ويقع في المركز من هذه الحضارة الإيمان بالرأسمالية والديمقراطية وتتصل بهما قضية " حق النساء في المساواة " .
وفى أفضل صورها: تولد هذه الحضارة اتجاهاً إيجابياً للحياة: الثقة في العلوم والخصومة الفردية ؛ النقاش الدائم للتوصل إلى حلول ؛ التفاؤلية ؛ واحترام القانون ؛ أما ارتفاع مستوى المعيشة ؛ والصحة والتعليم فهى أمور مفروغ منها.
    فالنشاط الفكري منتعش بشكل غير مسبوق (ينشر أكثر من 60000 كتاباً سنوياً فى بريطانيا وحدها).
    وإمبراطوريات المستقبل ؛ كما تنبأ المحارب الإمبراطوري العجوز "تشرشل" ؛ هي إمبراطوريات العقل ؛ وكان ذلك بمثابة تحذير لجمهور "هارفارد" ؛ صفوة هذه الحضارة ؛ و قد حفظوه فى القلب بلا شك.
    وبوصفي معلقاً على المجتمع الأمريكي ألاحظ ؛ موازناً بين قوته وضعفه:
    بلا شك تفاقمت مسألة اضمحلال مستوى التعليم الأصيل (حسب أحدث الإحصائيات لـ "القراءة ـ الاستيعاب ـ والإدراك" فى مدارس التعليم بأمريكا ...)
    وبلا شك كذلك . فإن الحفاظ على وتعلم فن أو أدب الماضي يتم إنجازها بإغراق حكومي متزايد . وهكذا أصبحت المكتبات الأمريكية والجامعات والأرشيفات والمتاحف ومراكز الدراسات العليا ؛ الآن بمثابة سجل لا غنى عنه ومتحف لثروات الحضارة.( شتاينر 1984  429 ).
    ويعتبر وقت الأزمة وقتاً مناسباً للحكم على أية حضارة. ولهذا فبدلاً من تأمل المنجزات التقنية الغربية أو نجاح الحكومات في تطبيق الديمقراطية ـ وهى مؤثرة في حد ذاتها ـ لنتأمل استجابات الناس للأزمات السياسية عندما يتعلق الأمر بالحياة الإنسانية.
    فعودة الرهائن (بريان كينان ؛ جاكى ماكارثى ؛ تيرى وايت ؛ تيرى أندرسون) تقدم لنا عدة نقاط أولها المثال الذي تقدمه عن المفهوم الخاطئ المزدوج الذي حدد طبيعة العلاقات بين الإسلام والغرب. فالمسلمون تساءلوا: لماذا كان الغرب ثائراً هكذا من أجل بضعة رهائن ؛ بينما آلاف من المسلمين يقتلون أو يهجرون بسبب مساندة الغرب لإسرائيل؟ وهؤلاء فشلوا في إدراك الأهمية المركزية للفرد ؛ المواطن الواحد ؛ في المجتمع الغربي.
وأدان الغرب المسلمين بوصفهم برابرة لاحتجازهم رهائن ؛ لكنه لم يربط بين السبب والأثر. لم يدركوا الآثار العميقة لمظاهر الظلم السياسي التي دفعت المسلمين إلى مثل هذه الأفعال اليائسة والطائشة. وبلا شك دفع هذا المفكرين المسلمين إلى التساؤل: هل يمكن للإسلام ؛ ومن أسماء الله الحسنى الرءوف (الرحيم) ؛ أن يدعم أبداً الاختطاف وتعذيب رجل مريض في أواخر السبعينات؟
    وهل طريقة القرون الوسطى الشرق أوسطية هذه هي الإستراتيجية المثلى لحل المشكلات السياسية اليوم؟
    بعد ذلك تأتى الكرامة الشخصية والحالة النفسية للرهائن تحت أسوأ الظروف وأقساها ؛ بالإضافة إلى دفء ودعم ذويهم : بداية من الوزراء والسفراء الذين ينوبون عنهم ؛ إلى وسائل الإعلام التى تمنحهم الأولوية ؛ إلى المواطن فى الطريق برفضه أن ينساهم . و يتضح من ذلك  أنه ما زالت هناك ينابيع من المشاعر الإنسانية تحت طبقة ظاهرة من التحلل وانعدام الإنسانية في الغرب. وبالنسبة لأصغر الرهائن ؛ ولهذا فهو أكثر من سنشعر بالأسى تجاهه ؛ كانت روح المرح و فتنة "ماكارثى" ؛ برغم كل ما عاناه من معتقليه ؛ جديرتين بالثناء.
وفى لحظة التحرر من ليل الأسر ؛ كان مثالاً لشخص تفخر به أية حضارة. ولأنه برهان على السمو والفضيلة رغم القهر ؛ فإنني أحيي "جون ماكارثي". وأحيي كذلك أصدقاءه ؛ وبخاصة "جيل موريل" و"كريس بيارسون" لعدم استسلامهم أو تخليهم عن الوفاء.
    وكان استقبال الناس لهم مشبوباً لحد البكاء.. (بطل بريطاني جداً هكذا كتب "جاميز دالريمبل" في الصنداى تايمز فى 11 أغسطس 1991 وكتب "بيتر ميلار فى نفس الجريدة بتاريخ 29 سبتمبر 1991 "بريطانيون بحق") البطل المتواضع والواثق في نفسه ؛ المثال الإنجليزي ؛ كان "ماكارثى" كما يود أن يرى الإنجليز أنفسهم .
و ضمن ما كتبته المجلات المحلية عن "ماكارثى" وصفها له بأنه الفتى الإنجليزي الذي يستمد قوته ورباطة جأشه من الريف الإنجليزي الأصيل ؛ وكانوا على حق. ونادراً ما تمدنا الدراما الإنسانية بنماذج دالة  عن مخزون التقاليد والاستقرار التي ما زالت موجودة في المجتمع الريفي ؛ والتي تصد المد الفاتن لموجة التغيير القادمة من المدن. وخلال إقامتي في الريف الإنجليزي لاحظت أن معظم القرى ما زالت محتفظة بالهيكل الاجتماعي ؛ والتقاليد ؛ ونظام المجتمع التقليدي.
    وربما كتاب (الخروج من كمبريدج ـ شاير) لن أكتبه مطلقاً ؛ لكنني أستطيع أن أثبت هذا من خلال نشاط هؤلاء الذين يستمتعون بلعب البولنج والكريكت فوق الخضرة ؛ ويتعبدون في كنيسة القرية ؛ ويتقاولون في المتجر. وعلى النقيض من سكان المدن ؛ ما زالوا يبتسمون ويقولوه "صباح الخير".
    الآن ـ الحضارة الغربية هى المسيطرة ؛ هي التعبير الكوني عن الإنسانية . ويتمثل سلاحها الفتاك في "وسائل الإعلام" وبخاصة التليفزيون. و قط يستشعر الحكام المستبدون والشعوب ما لوسائل الإعلام من تأثير.
    ومن يسيطر على وسائل الإعلام يصبح هو المسيطر ، وهنا قد يجاهر "ماكلوهان" باتفاقه مع "بودريار".
والبرهان القاطع على انتصار ثقافة الغرب ؛ جاء فى أغسطس 1991 فى موسكو : كان "بوريس يلتسين" يسمع مرة بعد مرة ؛ لأجل الإلهام ؛ أغنية "إلفيس بريسلى": هل أنت وحيدة الليلة ، وذلك خلال الأيام العصيبة في انتظار الإجراءات العسكرية الصارمة لحفظ النظام (راجع مقال "إلفيس ساعد انتصار يلتسين" ـ لـ "مارتين واكر" في الجارديان 26 أغسطس 1991). ولهذا الانتصار الثقافي تجل آخر فى الكويت عندما أصبح "جورج بوش" من أكثر الأسماء شعبية للأطفال حديثي الولادة ؛ وذلك بعد حرب الخليج.
   وتشتمل بيئة هذه الثقافة وقيمها على الاحتفالات اللحظية ؛ وينطبق هذا على الداعرة والأميرة ؛ ويتجلى ذلك في  الهوس بالإعلام والرغبة فى التحول إلى وجوه كونية بين يوم وليلة. وتسمح وسائل الإعلام بكل الأنماط العرقية غير المتصورة منذ جيل مضى : في نهاية 1980 شاعت هستيريا النجم الشعبى الروسى "جورباتشوف" مما أدى إلى ظهور لفظة جديدة وهى "جوربى مانيا" ـ الهوس بجوربى Gorbymania).
    وكان البرنامج الفكاهي الياباني (نادى كازوكو كاروك Kazuko's Karoke Klub). موجوداً قبل أن يظهر مشاهدو التليفزيون البريطاني والمصارعون اليابانيون ثقيلو الوزن فى برنامج يعرض أسبوعياً بانتظام فى بريطانيا ؛ بعنوان: "سومو".
    باعت الهندية (باميلا بوردز Pamela Bordes) أسرارها الجنسية للصحافة البريطانية فتحولت بذلك إلى نجمة إعلانية خلال أسابيع . ويخطط السينمائيون فى "بومباى" لصناعة أفلام تتناولها بشكل رئيسي. (فى نهاية 1980 طرقت محطة الـ (MPS) البريطانية ومحررو الصحف بابها ؛ و وضعوا فى كفيها اللزجين مبلغ 500 جنيه إسترليني) رغم أنه من المشكوك فيه إذا كان هذا ما قصدته "مسز تاتشر" بحديثها عن (الثقافة التجارية) في خطابها الموجه إلى البريطانيين.
  رئيس روسي يتبعه المعجبون وهم يصرخون ويلوحون. إعجاب جماهيري بالفكاهة اليابانية. ملكة جنس هندية.
    وفى الغرب ، منذ جيل مضى ، لم يَكُنْ تصور كل هذه الأشياء ممكناً.  مما يرشح ذوبان الأنماط العرقية والاجتماعية. وطبيعة عصر ما بعد الحداثة هي ما تجعل هذا الذوبان ممكناً.
    وهكذا نجد أن الثقافة الكونية لا تتحدد كلية بالانتماء العرقي أو باللون ؛ وإنما تؤكد  الانتقائية والكونية اللتين يقرهما ما بعد الحداثيين.
    وتعنى الحضارة الكونية أنه في إمكان الحكام المستبدين أن يهربوا من بلادهم إلى أي مكان في العالم عندما تثور الشعوب ضد فسادهم وظلمهم. وتعني كذلك ؛ كما يتضح من  حالة شاه إيران والرئيس "ماركوس" ؛ أنهم قد يساقون إلى الموت مبكراً عبر محاكمة قاسية وعبر وسائل الإعلام التي يبدوا أنها موجودة وقادرة على إصدار الحكم في أي مكان.
    وهذه ليست أخبار جيدة للحكام المستبدين ؛ لكنها طوق نجاة لكل الشعوب المقهورة ؛ وكذلك لهؤلاء الذين يستمتعون بمشاهدة العقوبات القاسية.

نظام عالمي جديد ....؟
    رسام خرائط ؛ ذو نظرة تجرؤ على التبسيط ؛ يمكنه أن يرفض النظام الأخرق لتقسيم الكوكب ـ الذى سيطر طويلاً ـ إلى عالم أول وثان وثالث ؛ شمال ـ جنوب ؛ شرق ـ غرب ؛ .. إلخ وسوف يقسم خريطة العالم بداية من عام 1990 ـ إلى قسمين رئيسيين:
    الحضارات ذات الانفجارات المنتشرة ؛ المتمددة ؛ وفوران الأفكار العلمية والخطط الاقتصادية والطموحات السياسية والتعبير الثقافي.
    أما القسم الثاني فيضم أصحاب الانفجار الداخلي ؛ المنغلقين على أنفسهم مع الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تحول دون أية محاولة جادة للمبادرات الكبرى.
    والقسم الأول ؛ قبل كل شيء ؛ ينفجر بتفاؤلية ؛ بنظرات مثبتة على المستقبل. أما القسم الثاني فمثقل بتاريخه ؛ بتقاليده ؛ يقينه ؛ وبمشاكله العرقية والعقائدية.
    وحيث أن الحضارة الغربية أو الكوكبية ؛ والدول السبع الكبرى تمثل جوهرها ؛ هى المثال على القسم الأول ؛ فإن بقية العالم يقع في القسم الثاني.
    وسوف يفكر رسامنا للخرائط عندما يتعلق الأمر بـ :
    جنوب أمريكا، حيث يوجد حكام مستبدون فاسدون وينتشر التضخم والاضطراب، وإفريقيا بحروبها الأهلية والمجاعات.
    وفى القلب من مشكلات جنوب آسيا يقع العنف الطائفي الأكثر تدميراً ؛ والذي يدفع باستمرار الهند وباكستان إلى حافة الحرب ـ وربما تكون نووية في المرة القادمة .
 وبمتوسط دخل أقل من (400 دولار) للفرد ؛ تظهر الصين مشلولة في ظل قيادة شائخة وركود اقتصادي ؛ ولقد نجح الاتحاد السوفييتي في الخروج من هذا الموقف ؛ لتجد نفسها محملقة في التحلل والحروب الحضارية.
    والأمم المنفجرة داخلياً ؛ ليس لها موقف جاد يمكنها من التحدي أو تقديم بدائل معقولة للحضارات المنفجرة خارجياً ؛ فيما يخص الزعامة العالمية.
    فقط العالم الإسلامي يمكنه تقديم رؤية كونية تدعمها القوة بحثاً عن دور على المسرح العالمي ؛ ويمكنه أن يفعل ذلك بطرق شتى:
ـ إما بتصدير العنصر اللازم لإدارة المحركات فى الغرب.
ـ أو بإنتاج قادة (من القذافى إلى الخومينى إلى صدام) تتحدى أفعالهم الغرب من خلال مخططات محلية أو حتى كونية.
ـ أو بواسطة الـ (عشرة ملايين) مسلم الذين يعيشون فى الغرب.
وهكذا تبدو الحضارة الإسلامية وحدها قادرة على الانفجار الخارجي والداخلي.  
تاريخياً انطلقت الحضارات الغربية من أوروبا واقترنت بالموت والدمار : بداية من الحملات الصليبية (وعادة ما تربط بالمذابح الجماعية الوحشية لليهود ؛ والتي وضعت القاعدة للطريقة التي عالجت بها أوروبا مسألة الأقليات) ؛ وحتى القرن السادس عشر عندما تخلصت أوروبا من السكان الأصليين أصحاب الأصول الكاريبية.
و هناك الآثار المدمرة في إفريقيا من جراء تجارة الرقيق والترحيل في سفن الموت ؛ إلى إبادة القبائل الأصلية في كل من أستراليا والولايات المتحدة.
وجدير بالذكر أنه خلال الحربين العالميتين فى هذا القرن كانت الحضارة الأوروبية تتقاتل فيما بينها ولا يوجد شيء في هذا العرض سبق أن شوهد من قبل. فالحضارة الغربية أحاطت العالم كله بجنون الحرب ؛ التي تسببت في قتل الملايين والملايين ؛ وفى تدمير ـ بل ومحو ـ أمم بأكملها.
 وما زالت آثار الانفجار الإمبريالي الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ؛ ملازمة للمجتمعات التقليدية في إفريقيا وآسيا. فلقد شوهت أوروبا ما لم تستطع تدميره. وذلك رغم أنهم بالفعل جلبوا الكهرباء والتليفون وخطوط السكك الحديدية.
وبدا الأوروبيون متغطرسين رغم مشاركتهم المفيدة.
    ويجب أن تتوجه المستعمرات بالشك إلى الإنجليز لأنه جاءوا بلغتهم معهم ؛ بالإضافة إلى نزواتهم السياسية ولعبة الكريكت.
    لكن الترحيل وأسلاك الكهرباء التي تطوق القرى والتحولات الثقافية، جميعها كانت جزءاً آخر من الميراث الاستعماري.
    وعندما رحلوا ـ رسم الأوربيون حدوداً ملتبسة لابتداع الدول وأحياناً كانوا يقسمون القبائل والقوى إلى قسمين. وفي إحدى الحالات ـ اشتركت الهند وباكستان في خط سكة حديد واحد: كان الرصيف يقع فى بلد ومكتب التذاكر في البلد الآخر.
    وكثير من مشكلات الشرق الأوسط وجنوب آسيا ترجع مباشرة إلى تلك المحاولات الطائشة والتخيلية لبناء دول.
    والولايات المتحدة ؛ حسب ادعائها بأنها ليس بلا ماض إمبريالي ، فهي أعظم دولة ديمقراطية في العالم ، وهذا صحيح . والمواطنون الأمريكيون في حياتهم الخاصة غالبا ما يتميزون بالدفء والاهتمام بالآخرين. ولكن في دورها كبطل للغرب والذي تلعبه من منتصف القرن العشرين حتى الآن بدأت أمريكا تكتسب كل السمات التاريخية والسيكولوجية والجيوبوليتيكية (الجغرافي ـ سياسية) للقوة الإمبريالية : روما الإمبريالية فى التاريخ القديم ؛ وأوروبا الإمبريالية في التاريخ المعاصر.
    ورؤى النظام العالمي الجديد ؛ التي ترسل الجنود إلى كل مكان في العالم لتدعيم هذا النظام ولتوفر المساعدة للدول الأخرى فى مواجهة كل نشاط إنساني ـ تقريباً ؛ تعد علامات إمبريالية (وإن شئت ـ علامات إمبريالية جديدة).
    وربما تمانع الولايات المتحدة في انضمام "روما" إلى النادي الإمبريالي ؛ لكنها بلا شك ستؤيد الرومانيين وغيرهم.
    وأفعال أمريكا عندما تتعامل مع الشعوب غير البيضاء ؛ لها أصداء تاريخية مشئومة لا توحي بالثقة":
ـ من معالجة مسألة "الهنود الحمر" في القرن الماضي ينطلق الصوت الأول.
ـ هيروشيما وناجازاكي 1945
ـ النابالم وحقول الألغام في فيتنام 1960م
ـ الرعب في حرب الخليج عام 1991 م

وكل ما سبق يعد تتابعاً منطقياً.
    ويعتبر الشعار والوعد بـ (جندي أمريكي مثالي) قادر على قذفهم إلى العصر الحجري ؛ بمثابة خطاب فلسفي أكثر منه انعكاساً للتقليد التاريخي والثقافي.
وتتميز كل مرحلة وكل هجوم بتطور واضح فى التسليح . فالسلاح يأتي ليمثل الطبيعة الملحمية للانتصار:
ـ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: استخدمت أسلحة (كولت 45) ؛ (وينشستر 73) وهي مدافع رشاشة وبنادق آلية.
ـ في منتصف القرن العشرين استخدمت القنبلة النووية ضد اليابانيين.
ـ في نهاية هذا القرن استخدمت أحدث الأسلحة التكنولوجية ضد العراقيين.
    والحقيقة أن العدو لا يحوز نفس السلاح ؛ وبالتالي يفقد ميزة أن يكون له دور في نتيجة الصراع. والقول الإمبريالي الفصل في مسألة (بندقية ماكسيم) يتلخص بوضوح وأمانة في : (الرجل الأبيض امتلكها ؛ والمواطن المحلى لم يمتلكها).
    لكن لا رحمة أو شفقة يمنحها المنتصرون ؛ لأنها تسهم بالقيل فى جعل المنهزمين يتقبلون الهزيمة.
    وبالتحديد ـ ساعدت الثورة ضد هذه الفلسفة فى خلق حركة عدم الانحياز في الدول النامية بعد الاستقلال. فولاء القادة الأفارقة والآسيويين مثل ناصر ونهرو وسوكارنو ؛ الذين أملوا في تجنب السقوط في فخ الانتماء إلى معسكر إحدى القوى العظمى ؛ وجدوا أنفسهم قد وقعوا في شرك ـ بدرجات مختلفة ـ المواجهات الكوكبية.


.......................................................................................................................