تجاوز الحدود الثقافية
سلمان رشدي ومادونا.. تجاوزات
خطيرة
نشير في هذا الفصل إلى الجدل
الدائر حول (سلمان رشدي ومادونا) ليساعدنا على فهم الحياة بعد الحداثية بشكل أفضل.
ويبدو أن قانون "نيوتن
الثالث للحركة" لم يكن مفهوماً لهيئة الرقابة البريطانية على الأفلام، عندما منعت
عرض فيلم (حروب عصابات دولية)، الفيلم الباكستاني عن "سلمان رشدى" ـ عام
1990.
وكان "نيوتن" قد
توصل إلى أن : لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه.
ورغم ضعف الفيلم من الناحيتين الفنية والفكرية، فإنه
تحول إلى مادة للأخبار الدولية بتجاوزه للحدود الثقافية.
وفى يوم وليلة تعلم كل من
(شاه زاد جول).ـ المنتج الباكستاني ـ، و (محمد فياض) ـ الموزع في المملكة المتحدة ـ؛
جوهر نبؤة "وارهول Warhol":
"في عصرنا هذا سيحظى كل فرد بالشهرة لمدة خمس عشرة دقيقة".
وهكذا نقلت عنهما وسائل الإعلام
الغربية، وطلبا في حوارات عديدة. وأوضح (جول) أن الدافع وراء فيلمه أنهم (أرادوا توجيه
ضربة مؤلمة لـ "سلمان رشدي"، وأضاف: أننا نعتبره رجلاً متحجر القلب، جباناً
ومجنوناً..).
وتمثلت الطريقة التي عبر بها
الجمهور عن بغضه لـ "سلمان رشدي" بالتحرش بـ (أحمد أفضل)، الممثل الذى قام
بدور "سلمان رشدي" و سبه وضربه في الأماكن العامة.
وفي المقابل قام (أفضل) بزيارة الأماكن المقدسة
في مكة ليبرئ نفسه. واشتكى (فياض) أن القراصنة باعوا فيلمه بسعر (100 جنيه إسترليني)
للنسخة، أثناء مثوله وفيلمه أمام "هيئة الحظر".
ولقد وصف الصحفيون الفيلم
بأنه (زواج شاذ بين الأصولية الإسلامية وبين التجارة والسينما الشعبية).
والحكاية كلها مجرد تشويه
للحقائق، فالفيلم فانتازيا باكستانية خالصة، نجمها "رشدي" الذي يبدو ـ حقيقةـ
لا علاقة له بـ "رشدي" فالممثل كانت له خصلة شعر غزيرة في مقدمة الرأس، وكان
يقضى معظم وقته في إهانة المسلمين والتشهير بهم، ليبدوا الأمر كمؤامرة دولية لإهانة
الإسلام بواسطته. وكان الحرس الخاص الذى يقوم بحمايته إسرائيلي الجنسية، أما
"رشدي" فكان قادراً على نسخ نفسه وهكذا ظهرت أربعة نسخ من "سلمان رشدي"
تجلس بجوار بعضها تلهو في الديسكو ضمن مشهد واحد. وقد أتاح هذا التناسخ للأبطال أن
يتعاملوا بعنف مرات عديدة دون أن يخل ذلك بالحبكة. وفي ذروة الفيلم فشل حتى أشجع الباكستانيين
في قتل (سلمان رشدي)، مما جعل تدخل العناية الإلهية في صورة صاعقة هو الحل الوحيد لإنهاء
هذه المهمة.
ويقول (جول) في هذا الشأن:
إننا مؤهلون لتأويل القصة كما نرغب، بالإضافة إلى أنها خيالية. ويحاكي (جول) بقوله
هذا دفاع (رشدي) عن روايته.
ويمدنا مصير الفيلم في
"المملكة المتحدة" بحقيقة أخرى أكثر غرابة عن الجدل الدائر حول دراما
"رشدي".
وقد حقق الفيلم أكبر الإيرادات
الباكستانية خلال السنوات الأخيرة، ويمكن القول بأنه ساعد بشكل فردي على إعادة الانتعاش
لصناعة محتضرة، لم تنجح فترات الحكم العسكري والمناخ الفكري العقيم في مساعدتها. وتتسم
الأفلام الباكستانية بالحركة السريعة الصاخبة وبالأبطال الخشنين أصحاب الأصوات المرتفعة،
وبأشرار يجأرون ويتوعدون طوال الوقت.
ولا يجب اعتبار هذا الفيلم
نموذجاً لأفلام جنوب آسيا وللموهبة السينمائية المسلمة، فلقد سبق وأشرت إلى أن بعض
الأسماء اللامعة في السينما الهندية ـ أكبر صناعة في العالم ـ مسلمون. وهذا الجزء من
القصة من الممكن فهمه، لكن الذي يستعصي على الفهم هو تصرف (الهيئة البريطانية للرقابة
على الأفلام)، لأنه استثار عويل المسلمين المبرر تجاه ازدواج المعايير البريطانية،
فالبريطانيون رفضوا حظر كتاب (رشدي) مما جعل منع عرض الفيلم بمثابة تناقض.
ويبدو الأمر بالنسبة للبريطانيين
محض رغبة لاستغلال الموقف وركوب الموجة، لأن هذا المنع ضمن للفيلم رواجاً واسعاً.
مادونا.. فتاة شهوانية في
عالم مادي
يعتبر مجرد سماع اسم
"مادونا" واسع الشهرة ـ بمثابة تحد وإهانة لـ "بابا الفاتيكان"،
كما تعتبر عروضها احتقاراً للأحاسيس الكاثوليكية، وبالنسبة للمسيحيين الأرثوذكس، فقد
شمل الجدل حول "مادونا" المواقف الرثة لفيلم "مارتن سكورزيز":
الإغواء الأخير للمسيح.
و"سكورزيز" الذي
يعد من أكثر مخرجي أمريكا شهرة واحتراماً، قام بإسقاط الصورة التقليدية عن المسيح،
لتصبح سمات مثل (الشك ـ الغموض ـ الجبن ـ سهولة الاستثارة ـ قسوة القلب) من السمات
المميزة لسلوكه. وباختصار تحول إلى بطل من الثمانينات.
ويعتبر المشهد الذي يضرب فيه
(يهوذا) المسيح بعنف ويشتمه ويصفه بالجبن، مثالاً على المشاهد المثيرة للجدل ويتمركز
الغضب المسيحي المتوقع حول الصورة التي استبدلت المسيح المخلص بالمسيح الذكر. ورغم
ذلك لا يتجاوز الأمر مسألة أنه محاولة لاستكشاف القصة وفقا لغرض فكري خطير.
وما يهم المسيحيون في
"مادونا" هو استخدامها المتعمد للمحاكاة الساخرة في تناولها للمعتقدات الدينية،
وميلها الواعي إلى إثارة الجدل.
وبرغم أن مهاجمتها للمعتقدات
لم يكن مقصوراً على الكنيسة، فلقد كانت تتعمد استخدام العلم الأمريكي بطريقة أثارت
غضب كثير من الأمريكيين الوطنيين، فإن استحضارها الواعي للكنيسة ليعد رغبة في التحريض،
ويشتمل ذلك على: ثنائية (العذراء / المومس)، الصليب، عباءات القساوسة، ممارسات الجنس
الشاذة مع الحيوانات وممارسة العادة السرية مع شخص يشبه المسيح.
وتحت وطأة غضب الكنيسة، سحبت
شركة "بيبسي كولا" عرضاً بخمسة ملايين دولار كانت قد تقدمت به لـ"مادونا"
للمشاركة في الدعاية. وكذلك نجح الفاتيكان في إلغاء عروضها في روما.
وعلى ما يبدو، كانت رسالتها
مناسبة أكثر من رسالة الكنيسة، وذلك بالنسبة لأتباعها، حسب ما اتضح من تعليقات طلاب
"كمبريدج" على "الجماعة الطاهرة" في الجامعة: (وحدث أن عبرت في
ظلام ليلة من ليالي الثمانينات، حينما لم يكن في استطاعة الأطفال الذين لا يتوقفون
عن التمايل والتلويح؛ أن يطالبوا بالمخدرات و"الروك أند رول" بوصفها حقوقاً
مشروعة لهم، وكذلك حينما أصبح الجنس (الأول في ترتيب الثالوث غير المقدس) خطيراً..
و للعجب كان الجنس قد ولد نجماً في الغرب.. واعتبرها الناس شيئاً جيداً، لأنها كانت
مصدر بهجة وهى في بؤرة الإثارة ولأنهم كانوا بداخل هذه البؤرة يشعرون بالرضا التام.
وفوق ظهر الأرض، وعبر كل الأجيال،
ستظل معروفة باسم "مادونا".. أنصت ولاحظ أن "مادونا"، مثل ابنها
الأقل شهرة ولمعانًا، قد وجدت لتمشي على الماء..).
والأهم إعلاميًا هو استغلال
"مادونا" ذلك لصالحها بمتعة وتهكم. ومن الممكن اعتبار أن عروضها في
"إستاد ويمبلى، في لندن.." وفى برشلونة وطوكيو؛ قد تم تصميمها والفاتيكان
في الحسبان.
فمثلاً أثناء عرضها: (مثل عذراء) صورت النشوة الجنسية
من خلال الأداء الحركى الصامت، أما الأغنية التي تستجلب الغضب البابوي بشكل خاص، فهى
أغنية (مثل مُصلٍ)التي جعلت كل الذين في الإستاد يصفقون لها وأذرعهم مرفوعة.
وأغنية (يا أبتي لا تعظ) التي تتناول مسألة الحمل
دون العشرين والثورة والعصيان، كررت فكرة المرتد الكاثوليكي بالصلبان معلقة فوق رأسه
تتوهج في إضاءة من النيون، وسألت وهي على المسرح مجموعة من الشباب الصغار دفعة واحدة
(هل تريدون مضاجعتنا؟!!).
ويؤكد آخر عرض لها في التليفزيون الأمريكي (أحكم
على حبي) وكذلك فيلمها (الحقيقة أو الجرأة: في السرير مع مادونا)، وفى هذا الفيلم ظهرت
وهى تلعق زجاجة ماء يفور، وهى تطارح الراقصين المخنثين في الفراش، أن الجدل لن يتوقف.
وبجانب أن "فلسفة المتعة الهندوسية"، و"المادية
المتحررة"، تعد علامات على حضارة وتقليد، فإن الكنيسة والصلب وصورة الأب لا يمكن
أن تختفي. فكل عرض لـ "مادونا" تسبقه صلاة.. "أنا روحانية" و"متدينة"،
هكذا أخبرت "مادونا" مقدم البرامج "وجان" بخشوع غير متوقع ـ
في برنامجه (22 يوليو 1991).
نعم ـ هكذا أجابت عندما سئلت
عن اجتماعات الصلاة قبل كل عرض في رحلاتها: "أنا متدينة" وهم مخلصون على
الأقل بقدر اهتمامي وتورطي ولا يعني هذا أنني أحاول بناء جسر بين الجنس والدين أو إنني
أؤيد موقف الكنيسة الكاثوليكية في إصرارها على الفصل بين الإثنين، وهذا هراء...!!
و"مادونا" هي طفلة
عصر ما بعد الحداثة، الإكليشيه، القناع، المنتج الأبهى للثقافة الاستهلاكية. فحياتها
وعروضها مثل مسرح باليه. و وعيها أسلوبها، إيماءاتها ومواقفها الجنسية كلها موجهة مباشرة
إلى جموع أتباعها بامتداد العالم.
وتصيب "مادونا"،
الفيلسوفة الشعبية لثقافة ما بعد الحداثة، هذا الوعي بقوة عندما تترنم بصوتها الضعيف
أحادي النغمة: (أنا فتاة شهوانية في عالم مادي).
وإذا كانت (مارلين مونرو)
وقعت تحت سطوة الإعلام الذي دمرها، فإن "مادونا" تتحكم في الإعلام وتعبر
عن نفسها من خلاله.
وما أكده (وارين بيتي) في
قوله: إنها لا تستطيع الحياة بدون كاميرا، أمر صحيح، فهى تستمتع بالسيطرة الكاملة كما
يتضح من قولها (أنا أستدعي اللقطات) في برنامج "سيارة بى بى سى ـ أحد برامج التليفزيون
البريطاني ـ 7 ديسمبر 1990".
لكن مستوى علاقة التبادل بين
"مادونا" والإعلام ليس ملهماً لأنها نادراً ما تفارق خصرها. ولهذا علاقة
بإجابتها على سؤال أحد الصحفيين (ما حجم صدرة "وارين بيتي"؟) فأجابت: لم
أقسها، فلماذا لا تسأله؟!!
وعندما سئلت عن الجملةالتي
تمثل فلسفتها في الحياة، أجابت (القيح يغطي العالم). ولا تعني لها هذه الجملة أية استعارات
أو تشبيه أو مجاز، وإنما تعنيها حرفيًا. كما في الفلسفة.
و"مادونا" الآن
مادة للدراسة المكثفة فهناك العديد من رسائل الدكتوراه معدة عنها، ومنظرو النسوية المتحمسين
قاموا بهدم صورتها في وعي أتباعهم. أما مناصرات (ما بعد النسوية)، الأقل نقداً لها
مؤخراً، فيشعرون أنها تدافع عن دور مملكة الجنس التي تتحكم في الجنسية الأنثوية. وفي
استفتاء لاختيار "المرأة الجديدة" اخترن "مادونا" بوصفها (نموذج)
التسعينات. وبهذا الشأن كتبت "نانسي فرايداي" في الجارديان الأسبوعية بتاريخ
(12 أكتوبر 1991) مقالاً بعنوان: (فانتازيا الجنس في التسعينات) وهذا ما جاء فيه:
(ثمة علامات تدعو للتفاؤل. فهناك جيل جديد من الشباب يتخذ المغنية والراقصة "مادونا"
أيقونة، و هي تقف بيديها أعلى فخذيها واعظة أخواتها بأن : مارسن العادة السرية.
ولا تعتبر "مادونا"
فانتازيا الاستغناء الذكوري، رغم أنها كذلك، ولكنها بالإضافة إلى هذا تحتوي المرأة
الجنسية والمرأة العاملة، وأزعم أنك تستطيع إضافة الأم أيضاً، فأنا أستطيع رؤية
"مادونا" تحمل طفلها على ذراعيها بينما كفاها مازالا على فخذيها..!!)
وتذهب الشطحات الأكاديمية،
في مجاراة للشخصية المنحرفة للعاهر والراهبة، إلى أن "مادونا" قد ساهمت بفاعلية
في التاريخ النسائي، فقد أعادت الالتئام والتوحد إلى شطري المرأة: مريم.. العذراء المباركة
والأم المقدسة، وماري المجدلية المومس.. وبالإضافة إلى هذا ـ فإن مساهمة "مادونا"
الثقافية الأقدر على البقاء، وربما تعود إلى أنها قد أدخلت الفتنة المحرمة للجمال المثير
للتصورات وشهوانية منطقة البحر المتوسط إلى (النسوية الأنجلوساكسونية) بجفافها وتحكمها
وولعها بالكلام. وهذا ما دعى حتى الإكونوميست،التي تتميز بالجدية والسمو في آرائها
(الذي يعود في جزء منه إلى طبيعة كتابها) إلى إسقاط الحرص والتورط في الرطانة بعد الحداثية
الوقحة، ويتجلى ذلك في الجزء المنشور (بتاريخ 27 يوليو ـ 2 أغسطس 1991) وربما الأكثر
أهمية، أنها أهملت أكثر أسئلة ما بعد الحداثة خداعاً عن (الأصالة والمعاصرة) وهو ماذا
يهم أكثر: أن تبدو أصيلاً أم أن تبدو متحققاً؟
ومكانة "مادونا"
بوصفها الشخصية الأكثر شهرة، مازالت آخذة في الازدياد برغم من معارضة الكنيسة. لدرجة
أنها خطفت الأضواء في مهرجان (كان) للأفلام (عام 1991)، كما يظهر مما كتبه الناقد ـ
المولع بها ـ بعد مقابلة معها: (فى الإمكان أن تشعر بسطوة حضورها من على بعد عشرين
ميلاً، إنها النجمة الوحيدة في المدينة) ـ (روبيرت ساندال، لنصبح ميتافيزقيين، صنداى
تايمز).
لكن "مادونا" تبدأ
في إفساد كل شيء عندما تصدق نفسها وتأخذ الأمور بجدية، فتتناول مسألة سعيها لمنصب الرئاسة..
ولم لا؟ فـ (رونالد ريجان) لفت انتباه نجوم هوليود ليقتفوا أثره.
ورغم سطوة أشكال الإعلام الهائلة
والجبارة وضجيج وفورة الـ "بوب" وبريق الأضواء، ثمة خواء في الداخل.. فجوة
فارغة وباردة ومعتمة، الحقيقة التي لم يستطع حتى (وجان Wogan) بحواره المهذب المتميز ـ أن يمنع كشفها سريعاً أثناء
عرض برنامجه.
وحالة عدم الاحترام الاستفزازية،
الإباحية الواضحة، إغواء الحواس الصارخ، الاحتفاء بالمادية، و الفراغ تحت كل هذا، يضيف
إلى الصورة المزيد، مما يجعلها أبعد ما تكون عن النموذج المسلم.
ومجرد أن لـ "مادونا"
معجبين، بغض النظر عن عددهم المحدود، في القاهرة وكراتشي، جدير بأن يزيد من حالة الإزدراء
والترفع لدى المسلمين لأنها تؤكد مدى الحاجة لحماية الحدود الثقافية. وفي هذه الحالة
سيعبر المسلمون والأرثوذوكس عن اشمئزازهم وشجبهم، مثل البابا، لشخصية "مادونا"
العامة. لأنها تعد بالنسبة لهم بمثابة تجسيد لعصر ما بعد الحداثة في الإعلام الغربي،
وملكته الفاتنة التي بها مس شيطاني (و في عام ـ 1991 ـ خرجت المظاهرات تحتج وتعلن رفضها
لشائعة أن "مادونا" ستزور باكستان..).
تجاوز الحدود الثقافية
ولم تكن (الهيئة البريطانية
للرقابة على الفيلم) هي الوحيدة التي اكتشفت مخاطر تجاوز الحدود الثقافية. فثمة مثالان
آخران يقدمان موقفاً شيقاً وموازياً، شخصيتان محترمتان تماماً تفاعلتا مع ما اعتبرتاه
استفزازاً لبيئتهما الثقافية، وهما : (آية الله خوميني)، و (بابا الفاتيكان).
فقد أدان (آية الله خوميني)،
(سلمان رشدي) لأنه اعتبر كتابه نوعاً من التجديف. وأدان بابا (الفاتيكان)؛ (مادونا)
بسبب أغنياتها. وبوصفهما على قمة نظام ديني موقر، قام كلاهما بالدور الذي يتوقعه أتباعهما.
فأي رجل دين مسلم كان سيتعامل
مع الكتاب بنفس طريقة (آية الله خوميني)، وأي قس كاثوليكي كان سيعتبر أغنيات (مادونا)
شيئاً سخيفاً ومقرفاً.
ولأن (رشدي)، (مادونا) ينتميان،
أو كانا في وقت ـ ما ـ إلى ديانتهما الموقرتين فهذا مما جعل الأمور أسوأ بالنسبة لهما..
فسابق الانتماء هذا هو سبب الاقتناع بأنهما تجرآ ببرود على معرفتهما الداخلية، مما
أضاف إلى إدانتهما.
وعلى الجانب الآخر، يرتكز
المدافعون عن المؤلف والمغنية، في نقاشاتهم، إلى الحق في التعبير الحر بالنسبة للفكر
والفن. ويظهر حجم السخرية في أصواتهم مدى عمق اقتناعهم بذلك.
وما لم يستطع (آية الله خوميني)
ولا (بابا الفاتيكان) توقعه هو أن احتجاجاتهم سيكون لها أثر مضاد لما انتوياه، فمبيعات
كتاب رشدي التي كانت تعاني من الركود، أصبحت من بين أفضل المبيعات، والإقبال على شرائط
مادونا بلغ القمة. كل ذلك لأن اهتمام وسائل الإعلام هو حلم أية دعاية، والإدانة هى
القاعدة الدولية والذهبية لجذب الإعلام، والتي قال عنها (وايلد): (قل أي شيء طالما
تنطقه بصورة صحيحة).
وعلى كل بالنسبة ل"سلمان
رشدي" كانت الفتوى كابوسًا يطارده، جعله يقضي حياته مترقباً تحرك الشخص الذي سيغتاله.
ومن الواضح، أنه بالنسبة لرشدي ومادونا ثمة حدود
قومية وفكرية وثقافية قد تم تجاوزها، ومنها: التقاليد، احترام الإله، القدرة على التضحية
باسم الدين والتي تميز المجتمع الإيراني الآن.
والعكس صحيح بالنسبة للمثقف
البريطاني، فالميل للهجاء سمة رئيسية في التعليق الإنجليزي، وكلما كان لاذعاً في سخريته
كان الأفضل.
وبين المسلمين، تتسم الفكاهة
بأنها شخصية وأقل همجية، ومن السهل إساءة استقبال النكات.
ولا يعني ذلك أن ميل الإنجليز
للهجاء والسخرية مقصور على المسلمين، فهم يسخرون بشكل اعتيادي من الاسكتلنديين، الإيرلنديين
والألمان، وقبل الجميع يسخرون من أنفسهم.
وتضمحل روح الدعابة الإنجليزية
لحد غيابها في (النكات)، تجاه العائلة المالكة (مازالت النكات السمجة عن أذني الأمير
تشارلز منتشرة ويتناقلها الناس..)، والملكة الأم، السياسيين، والطقس.
والجدير ذكره أن كلمة (آية
الله) بمثابة قانون في إيران، يحترمه الشيعة في كافة أنحاء العالم. وإذا قدر لـ (رشدي)
أن يتواجد في إيران وقت (الفتوى) كان سيواجه مصيره المحتوم.
ومجرد إعلان الفتوى وذيوعها
ضد (مواطن) في بلد غير إسلامي، يشير إلى أن (آية الله) قد عبر إلى ميدان تنافس مختلف
بقواعد وقوانين مختلفة.
وكان هذا العبور بالنسبة لمسلمي
بريطانيا صعب التفسير لما يتسم به من صيغة غامضة بالإضافة إلى إنه يستثير التطرف الثقافي.
وبالطبع ضايقت وأثارت مقاطع
كثيرة في الكتاب؛ معظم المسلمين، ولكنهم لم يجتمعوا كلهم على الرغبة في رؤية المؤلف
مقتولاً.
والخلاصة ـ فمثل هذا الغموض
الساحر الذي يشبع وسائل الإعلام: راديو، وتليفزيون، أخبار، كوميديا ـ وهى المقاييس
الرئيسية للثقافة الشعبية ـ هو ما زاد من صخب قضية رشدي..!!
وفي بداية عام 1991، ثار جدل
آخر، كان أن ينتهى بتهديد آخر بالموت لمؤلف ووجه إعلامي نجاح في عبور كل الحدود وكان
ذلك في أمريكا الجنوبية وضد (جابريل جارثيا ماركيز) رائد الواقعية السحرية ومؤلف الرواية
واسعة الانتشار (مائة عام من العزلة).
وفى عمله الأخير (الجنرال
في متاهته 1991) استفز مشاعر الأمريكيين الجنوبيين المولعين بـ (سيمون بوليفار)، الذين
احتجوا على طريقة معالجة شخصية بطلهم في الرواية. فاللاتينيون يعتبرون (بوليفار) مقاتلاً
نبيلاً وسياسياً ملهماً، كان متلهفا على توحيد المنطقة من (بنما) إلى (بيرو) في أمة
واحدة تعدعى (كولومبيا العظمى) ولهذا لم يتحملوا تصويره شخصية ضعيفة روحياً وفيزيقياً،
سهلة الإنقياد تمزقها الهواجس والميول الشهوانية والعواطف المشبوبة.
وهكذا يتضح كيف أن تماهى الحدود
الثقافية الناتج عن شبكة الاتصالات الحالية من الممكن أن يؤدى إلى إساءات فهم مدمرة
بين الشعوب المختلفة، ويصعب توقع آثار هذه التماهياتالتي تتسم بالخطورة.
وهذا ما حمله تحذير (دانتى):
تنازل عن كل الآمال يا من تريد الدخول، لمن ينتوى المشاركة. فدائما يحرف الإعلام ويشوه
كل شيء بحياد غامر، بلا أدنى احترام للأفراد. وهناك دائما المقربون والمكروهون من الإعلام
أما الشخصيات الرسمية مثل (آية الله) أو (البابا) فغالبا ما يحسبون من المكروهين.
وتساهم مناقشة مسألة (التجاوزات
الثقافية) في تخفيف مخاطر التعامل مع الإعلام وتساعد على تفسير المواقف معيارية التقييم
تجاه ما يعرضه من صور.