الجمعة، 3 يناير 2014

عشاق خالدون، أنطون تشيخوف وأولجا كنيبر




عشاق خالدون
 ترجمة: ياسر شعبان

1
أنطون تشيخوف وأولجا كنيبر
أزواج عن بعد




بلحيته الصغيرة المشذبة ذات الشعيرات البيضاء، كان "أنطون بافلوفيتش تشيخوف" يسحر النساء بإنسانيته، وضعفه وجنونه الذى لا يخلو من اكتئاب، لكن إذا طلبت منه إحداهن تعليقًا على عدم زواجه، يحمر وجهه من الخجل ويقول "طبعا أريد الزواج".
   لكن "تشيخوف" صرح برأيه فى خطاب أرسله إلى صديق له: "أعطنى زوجة لا تلازمنى فى حياتى مثل القمر الذى يكون معها فى موسكو، ومعى بذات الوقت فى الريف".
   وتمتلئ مذكرات هذا الكاتب ورواياته ورسائله بأمثلة كثيرة على كراهيته للزواج والنساء، وأحيانًا يصل الأمر إلى كراهية الجنس البشرى كله، ومثال ذلك قوله "العالم جميل لكن هناك شئ ردئ... نحن...". وهناك الكثير من الشهادات على شخصيته الباردة مثل "بداخله بللورة ثابته لا تتحرك" و"بمقدوره أن يكون طيباً وكريماً دون أن يحب، وكذلك حساساً ومهتماً دون أن يربط نفسه بشئ..".
        
 التحول
واستمر "تشيخوف" على موقفه هذا مستمتعًا باستقلاليته وشهرته كأهم كاتب مسرحى فى عصره، حتى قابل ممثلة موهوبة من أصل ألمانى "أولجا ليوناردوفنا كنيبر" والتى كانت تقوم بأداء الدور الرئيس فى مسرحياته الأخيرة.
   كان فى الواحدة والأربعين، وهى تصغره بعشرة سنوات، عندما تزوجا فى السر، فى 25 مايو 1901، وبعد سنتين من علاقتهما.
       
  ممثلة وكاتب

كان "تشيخوف" يعشق المسرح منذ طفولته القاسية الفقيرة التى قضاها فى "تاجانروج Taganrog" بالقرب من بحر "آزوف ـ Azov" ورغم ظروفه القاسية أصبح "تشيخوف" طبيبًا وكاتبًا للرواية والقصة القصيرة، وتدريجيًا بدأ مسرحياته الأولى التى فشلت، وبعد فشل مسرحيته "النورس" عند عرضها في سان بطرسبرج فى عام 1846، فر إلى الريف حيث اعتزل الحياة وخلال هذه الفترة تصادف أن فرقة موسكو للمسرح والفنون، ومخرجها " كونستانين ستانسلافسكى" كانت فى جولة بالريف، واقترح "ستانسلافسكى" عرض هذه المسرحية من جديد.
   وفى عرضها الأول فى 17 أكتوبر 1898 على مسرح موسكو، حققت هذه المسرحية نجاحاً كبيراً، وقامت " أولجا " بأداء دور "إرينا أركادينا"، بشعرها الأسود ووجهها المعبر ونظرات نافذة وشفتين رفيعتين.
   وأقر "تشيخوف" بأنه قد أُخِذَ بـ"صوتها، واعتزازها بنفسها وإخلاصها".
وكانت صدمة عظيمة له عندما اكتشف، وهو فى هذا العمر، هذا الحب الجارف تجاه تلك المرأة الذاكية والبارعة، والتى يضج جسدها بالصحة والحيوية.
ونزولا على نصيحة الأطباء بالإقامة فى مكان جاف المناخ، انتقل " تشيخوف " للإقامة فى "يالطا" حيث يوجد منزل انتهى بناؤه مؤخرًا، وفى هذا المنزل كتب مسرحياته ورواياته الطويلة. ولأنه كان يعشق ممثلة، كتب لها أدوار متعددة.
   وفى 26 أكتوبر 1899 قامت بأداء دور "إلينا أندريفنا " فى مسرحية " العم فانيا"، وفى 31 يناير 1901 أدت دور "ماشا" فى مسرحية " الأخوات الثلاثة".
      

الزواج

فى إحدى رسائله إلى "أولجا" كتب "حالتى الصحية أصبحت أشبه بالحالة الصحية لرجل عجوز، ويعنى هذا أنك لن تحصلى على زوج بل على جد عجوز". وصرح لها فى رسائل أخرى بخوفه من الزواج ومراسمه: "أشعر بخوف شديد من مراسم الزواج، وتلك الاحتفالات التقليدية، وزجاجة الشمبانيا التى يجب أن يحملها المرء وعلى وجهه هذه الابتسامة البلهاء".
   واشتركا فى نصب شرك لأصدقائهما يمكنهما من الفرار دون أن يتسبب هذا السلوك فى إغضابهم، وهكذا أعدا مأدبة عشاء كبيرة لأصدقائهما، بينما كان ينهيان إجراءات الزواج وفى طريقهما لقضاء شهر العسل فى مكان غريب جدا وهو إحدى المصحات القريبة من مدينة "يوفا ـ Ufa" حيث خضع " تشيخوف" لبرنامج علاجى مكثف لأن حالته الصحية قد تدهورت وبدأ يبصق دمًا من فمه لإصابته بمرض الدرن، وهو المرض الذى أودى بحياة أخيه فى الماضى.


أزواج عن بعد
  
وبعد انقضاء فترة شهر العسل بالمصحة العلاجية، عاد الزوجان إلى "يالطا" لكن بمجرد بداية فصل الشتاء، عادت "أولجا" إلى المسرح فى روسيا، ولم يلتقيا ثانية حتى حلول الصيف.
    ورغم زواجهما، لم يعيشا معًا على الأقل خلال فصل الشتاء، لأن مناخ موسكو القارص كان مناخًا قاتلاً بالنسبة لـ"تشيخوف" المريض، كما أن "أولجا" لم تكن على استعداد لرفض أي دور فى سبيل الإقامة مع زوجها المريض، وفى إحدى رسائلها قالت ذلك صراحة: "سأشعر بملل شديد، وسأروح وأجئ فى الغرفة وأنا أغمغم.."
   أما "تشيخوف" الذى كان سابقًا يريد الزواج من "صديق بعيد"، بدأ يشتكى من شعوره بالوحدة، وعبّرعن شعوره ذلك فى إحدى رسائله إليها: "أشعر بضجر شديد دونك..".
   وأمضى معظم وقته فى كتابة مسرحيته "بستان الكرز", وكان الاسم الأول لبطلة هذه المسرحية "ليوبوف Lyubov"  وهى كلمة تعنى "حب love".
   وشعر بالحسد تجاه ما تتمتع به من طزاجة ويوية وحب للحياة، واستبدت به رغبة يائسة فى إنجاب طفل، لكنها لم تتحقق له أبداً ولم يعرف مشاعر الأبوة.
   وعندما كتبت له معبرة عن حزنها بسبب إهماله لها، قام بمساندتها والعفو عنها وإراحتها وأرسل لها: " لم يحدث لمرة منذ زواجنا أن وجهت أى نقد لك ولتمثيلك، بالعكس أشعر بالسعادة لأنك تعملين، وأن لك هدفاً فى الحياة تسعين لتحقيقه.. كما أنه ليس خطؤك أنك لا تستطيعين البقاء معي خلال فصل الشتاء، بالعكس نحن نقدم نموذجاً ناجحاً للزواج الذى يقوم على فكرة المشاركة، لأن أى منا لم يمنع الآخر عن العمل، وبالإضافة لكل ما سبق، إذا لم نكن معاً، فهذا ليس خطؤك أو خطأي، بل من تخطيط الشيطان الذى بذر داخلى الميكروبات وداخلك بذور حب الفن..".
يالها من مشاعر حب عميقة وهادئة، تلك التى أسهمت فى تغيره وتغير وجهة نظره تجاه العالم.
   وفى قصته القصيرة "عنب الثعلب" والتى تعتبر من روائعه الأخيرة، كتب: "إذا كان لحياتنا معنى أو هدف، فليس من علاقة لذلك بسعادتنا الشخصية، بل هناك شئ أكثر حكمة وأهمية..".
   ورغم برودة الشتاء، سمح له الأطباء بمغادرة "يالطا" إلى موسكو ليجد المسرح وزوجته من جديد.
   وأظهرت زوجته كممثلة نجاحاً باهراً فى أداء دورها بمسرحية " بستان الكرز"، وكان عرضها الأول فى 17 يناير 1904.  
   وفى مايو، لاحظت زوجته أنه يفقد حيويته وروحه المقاتلة، فرافقته إلى ألمانيا إلى إحدى المصحات فى مقاطعة " بادنفيلز"، حيث توفى فى 2 يوليو.
   وظلت "أولجا كنيبر" على قيد الحياة حتى عام 1959، وطوال حياتها كانت هى الممثلة الرئيسة فى مسرح الفن، تقوم بأدوار البطولة فى مسرحيات لـ "جوركى"،" إبسن " ولزوجها "تشيخوف".
   وفى عام 1943 أدت لآخر مرة شخصية "لويبوف رانيفسكايا" والتى سبق وأدتها قبل تسعة وثلاثين عاما، فى مسرحية  "بستان الكرز".
   وعن التمثيل فى مسرحيات " تشيخوف" قالت "أولجا":
      ( يجب أن تحب الناس كما فعل هو، بكل أخطائهم وضعفهم )....



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق