أمبرتو إيكو
ت: ياسر شعبان
مقدمة
ألقي (أمبرتو إيكو)
هذه المحاضرات، باللغة الإنجليزية، علي طلبة الدراسات العليا فى الأكاديمية الإيطالية بأمريكا، ويتناول فى محاضراته
تلك ثلاثة موضوعات مهمة (اللغة ــ العلاقات بين الثقافات ـ العلاقة بين المؤلف
والنص والقارئ) . ويكشفت (إيكو) فى أسلوب بسيط ودقيق عن تأثيير الخلفيات
(المعرفية والروحانية والأسطورية..) علي الإنسان فى علاقته بكل ما يحيط به أو
يفعله، ويتخذ من موقف ماركو بولو، فى رحلته إلي الصين. مثالا واضحا لأثر الخلفية
المعرفية المضلل الذي جعل ماركو بولو لا يستطيع إعلان أن ما رآه لم يكن أحادي
القرن هذا الكائن الخرافى الذي خلقته الثقافة الأوروبية ليعيش فى البلاد البعيدة
العجائبية بل كان وحيد القرن "الكركدن".
ويتشابه فى ذلك
موقف علماء اللغة وهم يبحثون عن لغة مثالية تحقق تصوراتهم المجردة عن اللغة ودرها فى الاتصال ونقل المعارف والخبرات الإنسانية.
وعندما تتحكم هذه
الخلفيات فى العاقة بين الحضارات فإنها تؤدي حتما إلي المركب الاستعماري المشهور
(الإخضاع ــ السطور ــ الاستلاب) الذي يهدف إلي طمس ومحو حضارة لحساب أخري، عن طريق
إلصاق سمات مثل التخلف والوحشية والغموض بأدوات وإنجازات الحضارة المستهدفة، ويضرب
مثالا علي ذلك بعلاقة الحضارة الأوروبية ـ قديما وحديثا ـ بحضارات العالم القديم
بعد استنزافها وسرقتها.
ويتناول إيكو كذلك
دور "الخلفيات" فى إنتاج واستهلاك النصوص، وكيف أن هذه الخلفيات تكمن
دائما فى لا وعي الكاتب والقارئ؛ فى انتظار الفرص المناسبة للتحرر والتجسد
والتفاعل.
وتتسم المحاضرات
بدرجة ــ ما ــ من الشفاهية، مما جعلها قصيرة الجمل، بسيطة البناء وغير متكلفة،
لأن غرضها الأساسي هو توصيل الأفكار إلي طلبة الدراسات العليا الذين يمثلون ــ
إلي حد ما ــ القارئ التجريبي بما لديه من خلفية معرفية تؤهله لاختبار المعلومات
التي تقدم له. ولهذا جمعت هذه المحاضرة بين وفرة المعلومات وعمق التناول والتحليل
، وبين خفة ووضوح الأسلوب فى عرضه للأفكار واستعراضه لمعلومات تعود لبدايات
الألفية الثانية، وتحليله لمناهج البحث وما نجحت أو فشلت فى تحقيقه، وأزعم أن هذه
المحاضرات قد ساعدتني علي تجاوز حالة الرهبة التي كانت تنتابني كلما هممت بقراءة
أي كتاب لــ "أومبرتو إيكو"لكثرة ما شاع عنه من صعوبة وغموض ونخبوية.
وأرجو أن تساعد
ترجمتي القارئ.
المترجم
(1)
حلم اللغة المثالية
ظهرت قبل سنوات
ترجمة لكتابي الذي يدور حول البحث عن لغة مثالية، ويقع هذا الكتاب فى 400 صفحة،
ورغم ذلك لا يشغلني أمر تلخيصه لأنه فى ذاته تلخيص لكتاب "برج بابل"
لــ "أرنو بورست"والذي يهتم فقط بالجدل التاريخي حول ارتباك الألسنة،
وليس بالبحث عن لسان مثالي، ويقع هذا الكتاب فى ستة أجزاء كبيرة.
أما الثقافة الحالية
فتخطط لمئات ومئات المشروعات عن اللغة المثالية.
وبعد نشر
كتابي، أعراني بعض الناس بسؤالهم عن ما
هية اللغة المثالية، و كيف تعمل، وأجبت بأنه عندما يكتب الواحد كتابا عن
"البطة دونالد"فهذا لا يعني أنها موجودة وأن هذا المؤلف يؤمن بوجودها.
وهكذا فالبحث عن لغة
مثالية كان ولا يزال حلما مستحيلا استحوذ علي تفكير الجنس البشري لقرون طويلة.
وفى محاضرة هذا
المساء سأتناول بعض جوانب قصتي لأعرض كيف أن محاولة انتقاد اللغات ستسهم فى جعلنا
نفهم بعض الأشياء وراء نجاح لغتنا غير المثالية فى أداء دورها.
وأسطورة ارتباك
الألسنة من الممكن أن نجدها فى كل الثقافات .
وإخلاصا للثقافة
الأوروبية وأصولها ، سيكون لقصتي ميزة الابتداء من البداية، فلقد ورد فى سفر
التكوين الآية (19) : "وجبل الرب
الإله من الأرض كل حيوانات البرية ولك طيور السماء، فأحضرها إلي ادم ماذا يدعوها،
ولك ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها.."وليس واضحا أبدا وفقد أية واضحا
أبدا وفق أية قواعد اختار آدم الأسماء التي أطلقها علي الحيوانات.
ويقول العامة إن آدم
نادي علي الحيوانات بأسمائها التي تخصها. وهنا يبرز سؤال لطيف: هل منح آدم
الحيوانات الأسماء التي ــ ببعض التجاوز اللساني ــ نتجت عن وجودها، أم منحها
الأسماء التي ما زلنا نستخدمها وفقا لقراره الاصطلاحي؟
والرأي التقليدي
الشائع؛ أن آدم منح الحيوانات الأسماء التي تعكس ما هيتها.
وبالنسبة لآخرين
استمر جدا طويل حتي القرن الثامن عشر حول ما إذا كان آدم قد منح أسماء
"للأسماك"بناء علي أنه لم يرد ذكرها فى الإنجيل، وكذلك صعربة تصور كيف
نجح الرب فى إحضارها إلي الجنة. وجاء فى
الإصحاح (11) أنه بعد الطوفان (وكانت الأرض
كلها لسانا واحدا ولغة واحدة) حتي صور غرور البشر لهم أنهم قادرون علي
منافسة الرب وهكذا شرعوا فى تشييد برج يصل إلي الفراديس.
ولأجل معاقبة
خيلائهم، ووضع حد لتشييد برج بابل، أربك الرب ألسنتهم، ولم تتأثر الحاضرة
الإغريقية اللاتينية بهذه التعددية فى اللغات، وعرفوا ببساطة لسانهم بأنه لغة
المنطق واعتبروا البربر قوما يفأفئون ولا يتحدثون
أية لغة علي الإطلاق، لدرجة أن آباء الكنيسة الأوائل لم يشعروا بالأثر
العظيم لحالة اربتاك الألسنة، وزعموا أن العربية هي اللغة الأصلية، لكنهم آثروا
الكتابة الإغريقية أو اللاتينية، وأصبح ارتباك اللغة مشلكة عصيبة لأوروبا، منذ
واجهت مولد اللهجات العامية.
ولا يمكننا أن نجد
أيه تمثيلات لبرج بابل قبل القرن الرابع أو الخامس، وقليل منها فى القرن الحادي
عشر، ثم كان فيضان من الأبراج.
وواجهت الصورة تحدي
دراما التشظي اللساني، وبدأت الثقافة الأوروبية البحث عن علاج للارتباك اللساني،
ونظر البعض وراءهم محاولين استعادة اللغة التي تحدثها آدم، وتطلع البعض إلي لغة المنطق
القادرة علي احتواء تمام ومثالية خطاب الجنة المفقود.
***
(2)
حكايات
عن إساءة الفهم بين ثقافتين
من
" ماركو بولو" إلى " ليبنتز "
تناقش
هذه المحاضرة بعض المفاهيم المغلوطة التي تنتج عندما لا يسع الناس أن يفهموا أن
للثقافات المختلفة لغات مختلفة ورؤى مختلفة تجاه العالم . ولا تعني الحقيقة التي
تقول بأن حتى هذه المفاهيم المغلوطة قد توفر بعض الاكتشافات الجديدة ؛ سوى أن
الأخطاء قد تنتج عنها آثار جانبية مهمة . وكذلك فعندما تتقابل ثقافتان ، فثمة صدمة
للاختلاف بينهما ، وعند هذه النقطة هناك ثلاث احتمالات عامة : الإخضاع ، السطو
الثقافى ، التبادل .
1-
الإخضاع Conquest
وفى
هذه الحالة لا يستطيع افراد الثقافة (أ) التعرف على أفراد الثقافة (ب) بوصفهم بشرا
ً طبيعيين " والعكس صحيح " . ويطلقون عليهم " البرابرة "
ويعني هذا ـ من الناحية الايتمولوجية ـ أنهم كائنات غير قادرة على الكلام ، وبذلك
فهم كائنات غير إنسانية أو دون إنسانية ، وبالإضافة إلى هذا ـ هناك احتمالان آخران
: إما أن يعملوا على تحضرهم " أي يحولونهم إلى نسخ مقبولة منهم " أو
يدمروهم ، أو كلاهما .
2-
السطو الثقافى Cultural Pillage :
وفى
هذه الحالة يتعرف أفراد الثقافة (أ) على أفراد الثقافة (ب) بوصفهم حملة حكمة مبهمة
. وقد يحدث أن تحاول الثقافة (أ) أن تحل سياسيا ً وعسكريا ً محل الثقافة (ب) ، وفى
الوقت نفسه تحترم ثقافتهم الغريبة وتحال فهمها وفك شفراتها ، فالحضارة اليونانية
حولت مصر إلى مملكة " هيلينستية " لكن الحضارة اليونانية فتنت بالحكمة
المصرية منذ (فيثاغورث ـ Pythagoras) وحاولت ـ كما يشاع ـ سرقة سر الرياضيات ، الكيمياء ، السحر ،
والديانة المصرية .
ومثل
هذا الفضول والإعجاب والاحترام للحكمة المصرية ، عاود الظهور فى الثقافة
الأوروبية الحديث من " عصر النهضة " وحتى أيامنا هذه .
3-
التبادل Exchange
وهو
أحدى طريقتين للتأثير والاحترام المتبادل . وبالتأكيد هذا ما حدث حال الاتصال
المبكر بين أوروبا والصين ، منذ زمن " ماركو بولو " وبالطبع أيام "
الأب متى ريس Matteo Ricci
" وتبادلت هاتان الثفاتان أسرارهما ، تلقى الصينيون ـ عن طريق جماعات التبشير
اليسوعي ـ كثيرا ً من أوجه العلم الأوروبي .
بينما
حمل اليسوعيون إلى أوروبا أوجها كثيرة من الحضارة الصينية ، لدرجة أنه حتى الآن
مازال الإيطاليون والصينيون يتجادلون حول من ابتكر " الإسباجتي " وذلك
قبل أن يدمر " أهل نيويورك " كل شيء بابتكارهم " الإسباجتي بكرات
اللحم " . وبالطبع ـ الإخضاع ، السطو الثقافى ، والتبادل .. عبارة عن نماذج
مجردة أما واقعيا ً ـ فنستطيع أن نجد حالات متنوعة تتداخل فيها الاتجاهات الثلاثة
.
يبقى
أننا أريد التأكيد على أنه ثمة طريقتان أخريان للتفاعل بين الثقافات .
ولست
مهتما ً بالطريقة الأولى : " الغرائبية Exoticism " وبواسطتها تبتكر ثقافة ما ـ عن طريق إساءة التفسير ،
والرية الجمالية العتيقة ذات الطابع التوفيقي ـ صورة مثالية لثقافة بعيدة نموذجية
مثل : انتشار الزخرفة الصينية ـ عرض " سيد هارتا "(3) الذي
أصاب الهيبز ـ باريس لـ " فينست " ـ أو نيويورك كما يراها الإيطاليون
" محبو الأجانب " الذين عبروا المحيط ليشتروا سترات إيطالية ، صينية
الصنع ، من بعض المحال الإنجليزية الشهيرة .
أما
الظاهرة التي تثير اهتمامي فمن الصعب إطلاق اسم عليها ولتسمحوا لي أن استخدم ـ عفو
الخاطر ـ تعريفا ً مؤقتا ً .
نحن
، بوصفنا بشرا ً نسافر ونستكشف العالم حاملين " خلفية معرفية " ومما لا
شك فيه أننا لا نحملها ماديا ، بل أعنى نسافر بمعرفة مسبقة عن العالم تسلمناها عن
تقاليدنا الثقافية .
وبكل
الفضول نسافر ، لكن بمعرفة ما نحن مقبولن على اكتشافه ، لأن بعض الكتب اخبرتنا عما
يفترض اكتشافه ، ويتجلى تأثير هذه " الخلفية المعرفية " فى أنه مهما
رأى المسافر واكتشف ، فإن كل شيء سيتم تأويله وتفسيره وفقا ً لهذه الخلفية .
وأقنعت
تقاليد القرون الوسطى الأوروبيين بأن حيوانات الـ " يونى كورن " ـ أحادي
القرن " (4) تعيش هناك ، هذه الحيوانات التي تبدو مثل الخيول البيضاء الهيفاء
اللطيفة ـ بقرن فوق أنفها ، لأنه من الصعب جدا ً مصادفة وحيد القرن فى أوروبا (
فحسب الفلاسفة التحليليين .. لا وجود لهذه الكائنات ـ رغم أنني لست متأكدا ً من
ذلك) .
وأقرت
التقاليد بأن حيوانات " أحادي القرن " هذه كانت تعيش فى الأقطار
الغريبة جدا ً مثل " مملكة بريستورجون" (5) فى إثيوبيا ، ومملكة
بريسترجون لا وجود لها .
لكنها
لو كانت موجودة بالمصادفة ، لعاشت بها هذه الحيوانات . وحيث إن التعبيرات المضادة
للواقع ـ بقوة جداول الحقيقة ـ دائما ً تكون حقيقية فهذا حل جيد ومقبول . كذلك ـ
عندما سافر " ماركو بولو" إلى الصين، كان واضحا ً أنه يبحث عن الحيوانات
أحادية القرن . وكان ( ماركو بولو) ضابطا ً ، ولم يكن مفكرا ً ، وفوق ذلك كان أصغر
، عندما بدأ الترجال ، من أن يقرأ كتبا ً كثيرة ، لكنه بالتأكيد كان على دراية بكل
الأساطير التي شاعت فى زمنه عن الأقطار الغريبة . وهكذا كان مهيأ للقاء حيوانت :
" أحادي القرن " وبحث عنها .
ولذا
ـ ففى طريق عودته " عند يافا Java " رأى حيوانات بدت مثل أحادي القرن ، لأنه ماثل بينها وبين
أحادي القرن .
ولأنه
كان ساذجا ً وأمينا ً ، لم يستطع الإحجام عن قول الحقيقة . حقيقة أن الحيوانات
أحادية القرن التي رأها كانت مختلفة جدا ً عن هذه الموجودة فى " التقاليد
الميلنيرية " (6) ياللمفاجأة ..!! لم تكن بيضاء ، كانت سوداء " ولها شعر
الجاموس وحوافرها كبيرة مثل حوافر الفيل ، وقرنها لم يكن أبيض بل اسود ولسانها خشن
شائك ، ورأسها مثل رأس الخنزير البري ، فى الحقيقة ـ كانت حيوانات "
الكركدن" (7) هي ما رأها ( ماركو بولو) .
ولا
نستطيع زعم أن ( ماركوبولو) كذب ، فلقد قال الحقيقة العارية، وهي أن الحيوانات
أحادية القرن ليست بالرقة التي يعتقدها الناس ، لكنه لم يقدر على قول أنه قابل
حيوانات جديدة وغير شائعة ، فغريزيا ً حاول أن يماثل بينها وبين صورة معروفة جيدا
ً.
***
(3)
المؤلف
ومفسروه
أعتقد
أنه ليس على القاص أو الشاعر مطلقا ً أن يقدم أية تفسيرات لعمله ، فالنص بمثابة
آلة تخيلية لإثارة عمليات التفسير .
وعندما
يكون هناك تساؤل بخصوص نص ما ، فمن غير المناسب التوجه به إلى المؤلف .
وفى
عام ( 1962) كتبت ( العمل المفتوح ـ The Open work ـ كمبريدج ، هارفارد يو . بي 1989) وفى هذا الكتاب كنت أدافع عن
الدور النشيط للمفسر عند قراءة النصوص وفق قدرته الجمالية .
وعندما
كتبت هذه الصفحات ركز قرائي على الجانب " المفتوح " من العمل كله
مستخفين بحقيقة أن القراءة ذات النهاية المفتوحة ، التي كنت أعاضدها ، هي نشاط
يستثيره ( ويهدف إلى تفسيره ) العمل .
وبصيغة
أخرى كنت أدرس أشكال الجدل بين حقوق النصوص وحقوق المفسرين ، ولدي انطباع بأنه ،
طوال العقود الأخيرة ، كان التأكيد على حقوق المفسرين أكثر وفى شتى كتاباتي كنت
أعمل على تطوير فكرة ( العلامات اللامحدودة) الفارسية ، ولكن نظرية ( العلامات
اللامحدودة ) لم تؤد إلى ما يفيد بأن التفسير لا سمات له ، وقبل كل شيء يجدر ذكر
أن ( التفسير اللامحدود ) يتعلق بالأنظمة systems وليس بالعمليات Processes ..
فالنظام
اللغوي وسيلة ؛ منها وباستخدامها ؛ يمكن إنتاج سلاسل لغوية لا نهائية ، وإذا ما
بحثنا فى قاموس عن معنى مصطلح ، سنجد تعريفات ومترادفات ومن ثم كلمات أخرى .
ونستطيع أن نتابع البحث عن معنى هذه الكلمات ، ومن خلال تعريفها نستطيع الانتقال
إلى كلمات أخرى ، وهكذا إلى ما لا نهاية .
"
والقاموس " كما قال ( جويس ـ Joyce)(1) فى (Finnegans wake
صحوة فينيجانز) ، بمثابة كتاب كتب لقارئ نموذجي يعاني من أرق نموذجي .
ولكن
نصا ً ما بوصفه نتيجة لاستخدام الإمكانات المتاحة لنظام ما ، ليس مفتوحا ً بنفس
الطريقة السابقة ، ففى عملية إنتاج نص ما يختزل المرء نطاق الموضوعات اللغوية
الممكنة .
فعند
كتابة . ( جون يأكل ..) هناك احتمالات قوية بأن الكلمة التالية ستكون ( اسما ً )
وأن هذا الاسم لا يمكن أن يكون درج سلم ( رغم أنه فى بعض النصوص قد يكون سيفا ً Sword) وباختزال إمكانية إنتاج لسلاسل لغوية لا منتهية ، يختزل النص
احتمال إجراء تفسيرات بعينها والزعم بأن عمليات تفسير نص ما ؛ عمليات لا محدودة لا
يعني أن التفسير لا هدف له .
والزعم
بأن نصا ً ما لا نهاية له ، لا يعني أن كل عملية تفسير تستطيع التوصل لنهاية سعيدة
.
واقترح
أسلوب ( بوبر – Popper)
(2) الذي يقيس به التزييف والتحريف ، وذلك عندما يكون من الصعب تقرير ما إذا كان
تفسير ما جيدا ً ، وأي التفسيرين أفضل بالنسبة لنفس النص ، وإدراك هذا سهل دائما ً
، خاصة عندما يكون تفسير ما واضح الخطأ والجنون والتكلف .
وتجزم بعض النظريات النقدية المعاصرة بأن القراءة
الوحيدة الممكنة لنص ما هي " القراءة المغلوطة ـ Mis reading " وذلك لأن وجود النص يتحقق ـ فقط ـ من خلال سلاسل من
الاستجابات يستثيرها بنفسه ، وهكذا يصبح النص مجرد نزهة يحضر فيها المؤلفون
الكلمات والقراء المعنى .
وبافتراض
صحة ما سبق ، فإن كلمات المؤلف تعد بمثابة حزمة أسرة من الأدلة المادية ، لا
يستطيع القارئ المرور عليها فى صمت أو جلبة .
وفى
كتابي ( حدود التأويل) فرقت بين " قصد المؤلف ، قصد القارئ وقصد النص ..
" .
فالنص
وسيلة تخيلية غرضها إنتاج قارئها النموذجي ، وهذا القارئ غير موكل إليه تقديم
الحدس الوحيد / الصحيح ، فالنص يستطيع التنبؤ بقارئ نموذجي مؤهل لتجريب حدوسات لا
نهائية . كيف يمكن البرهنة على صحة حدس ـ ما ـ بشأن قصد نص ما ؟
والطريقة
الوحيدة هي اختباره على النص بوصفه وحدة متكاملة . وهذه الطريقة أيضا ً ـ قديمة
وترجع إلى " أوجستين Augestin " (3) فى كتابه ( المذهب المسيحي ـ Doctrina
Christiana ) ، فأي
تفسيرلجزء من نص يمكن قبوله إذا تم التثبت منه ، ويجب أن يرفض إذا ما عارضه جزء
أخر من نفس النص .
وبهذا
المعنى ـ يتحكم التماسك النصي الداخلي فى دوافع القارئ التي يتعذر التحكم فيها .
وعند
تعبئة نص ـ ما ـ فى القالب ، ويحدث هذا مع الشعر والقص وكذلك النقد المنطقي
الخالص ، أي عندما ينتج نص ما لمجتمع من القراء وليس لمرسل غليه مفرد ، فإن المؤلف
يعرف ( أنه / أنها) سوف يفسر ؛ ليس وفقا ً لمقاصده ها) وإنما وفقا ً لاستراتيجية
معقدة من التفاعلات التي تتضمن القراء كذلك بالإضافة إلى كفاءتهم اللغوية بوصفهم
خزانة اجتماعية . وما أعنيه بـ ( خزانة اجتماعية) لا يقتصر فقط على لغة ما بوصفها
قواعد نحوية ، وإنما يشتمل على الموسوعة الكاملة التي حققتها أداءات هذه اللغة ،
ويطلق عليها " التقاليد الثقافية " والتي أنتجتها هذه اللغة وتاريخ
التفسيرات السابقة لعديد من النصوص ؛ مستوعبة النص الذي يعمل القارئ على قراءته .
بناء
ً على ذلك ـ فإن كل فعل قراءة هو صفقة صعبة بين كفاءة القارئ (عالم القارئ المعرفي) ، ونوع الكفاءة التي
يفترضها نص ما ليقرأ بطريقة اقتصادية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقتطفات من كتاب (حكايات عن إساءة الفهم ـ أمبرتو إيكو ـ ترجمة: ياسر شعبان)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق