الثلاثاء، 14 يناير 2014

الشمال الفاتن، جون أبدايك، مقال






الشمال الفاتن
                                                                          جون أبدايك
                                                                      ترجمة: ياسر شعبان

نجحت الكاتبة الكندية أليس مونرو في اكتساب شهرة أدبية عالمية بفضل قصصها القصيرة. وليس هذا بالشيء الهين، فآخر من حقق مثل هذا النجاح كان الكاتب الأمريكي ريموند كارفر، وقبل كان هناك دونالد بارثليم وإيودورا ويلتي وفلانيري أوكونور وكاترين آن بورتر، وجميعهم ذاعت شهرتهم عندما كانت القصة القصيرة عنصرا رئيسا في المجلات ذات الانتشار. واتسمت قصص السيدة مونرو، والتي بدأ نشرها في مجلة النيويوركر قبل 20 عامًا مضت،  بالطموح منذ البداية؛ فلديها حبكة قصصية تتميز بالتعددية والتراكبية، ووضوح ساطع في العبارة والصورة، ومحاولات استثنائية لسبر الأغوار والحفاظ على المصداقية. هناك حزم وشجاعة في سعي السيدة مونرو. تعلمنا من إحدى بطلاتها المقابلات للتبدل: "حصلت جلوريا على كورس كتابة تدريبية، ومما قاله لها المدرب: هناك أشياء كثيرة. أشياء كثيرة تحدث في الوقت نفسه. وهناك كذلك العديد من الناس." ومن أقوال إحدى "ربات المنزل" في قصصها "في منزلي، كنت كثيرًا ما أبدو باحثة عن مكان لأختبئ به.. أحيانًا من الأطفال، لكن غالبًا من المهام التي يجب علي إتمامها ومن رنين جرس التليفون ومن مخالطة الجيران. أردت الاختباء لاهتم بعملي الحقيقي، والذي كان بمثابة استعادة للألفة بيني وبين المناطق البعيدة من ذاتي."
واتخذ هذا السعي لاستعادة الألفة، في أعمال السيدة مونرو الأولى، شكل السيرة الذاتية المغرقة في التفاصيل. وعبر التداخل بين التباينات القصصية تبزغ بطلة مميزة.
ولدت في حياة ريفية قاسية في قرية حول بحيرة هورون. وتوفي أحد والديها وهي صغيرة، لكن كانت هناك حياة أسرية حميمة من العمات والأعمام والأجداد. ولبراعتها، التحقت بالجامعة وتزوجت، وانتقلت وزوجها إلى كولومبيا البريطانية، المعروفة بـ "فانكونفر"، وأنجبا أطفالًا.
لكن كان هناك شيء يتعلق به.. غطرسة.. هشاشة..  تولد شعورًا عميقًا بعدم الرضا، وتشاجرا كثيرًا، وفي النهاية تتخذ عشيقًا، وعادة ما يكون من الطبقة العاملة، وينهار الزواج. والآن لدى بطلتنا، غير المتزوجة الآن، عروضًا وإغواء بحياة بوهيمية مستقلة، سواء تمّ تقديمها بوصفها ممثلة تليفزيونية ("Simon's Luck")، أو مالكة مكتبة ("Differently") أو محررة ـــDulse" " .
أعجبنا بها بالطبع، بينما تتحرك بعينين وأذنين يقظتين في عالم ملئ بالاحتمالات الرومانسية؛ غضب زوجي، نسل مثير للمشاعر (بنات، غالبًا) وعلامات شيخوخة لا يمكن تجاهلها. وهي ليست عفيفة أو ضحية، ما هي عليه هو "حيوية الوجود".
شمال الولايات المتحدة حيث صخب الدعوات الأخلاقية والولع بالمسيحية، للأشياء في كندا خصوصيتها، من "الهوس الجنسي دون عاطفة" إلى الطبيعة التي "لا تخدعنا مطلقًا، بل نحن من نخدع أنفسنا دائمًا."
وبصفاء المُحب، تكشف لنا السيدة مونرو كيف أن وقائع العالم تحضر وتطوق فتاة صغيرة. وفي القصة الأولى من هذه المجموعة، "رعاة البقر الإخوة ووكر" ، ترافق الفتاة والدها، مندوب مبيعات متجول، في جولة تنتهي في منزل "نورا"؛ وثمة معرفة قديمة بينهم. وبطاقة جنسية فياضة، تحتضن نورا الفتاة كشريك في الرقص، "ضاحكة ومتحركة بخفة هائلة، غمرتني ببهجتها الغريبة، وبرائحة الويسكي التي تفوح منها مختلطة برائحة الكولونيا والعرق." لكن مندوب المبيعات المتزوج تجاهل بشكل محرج الرقص مع نورا، وبينما كانا في طريقهما للعودة، شعرت الفتاة بأن "حياة أبيها بعد فترة الظهيرة الأخيرة، أصبحت كئيبة وغريبة ... تحولت إلى شيء لن تعرفه أبدًا، مثل كل أنواع الطقس والمسافات التي لن تتمكن من تخيلها." وتتخذ الغرابة الهائلة لحياة البالغين، في قصة " The Ottawa Valle"، مضمار الأسلاف، إلقاء الشعر القديم البائس ورفض الأم لأي وعد بالشفاء من مرض باركنسون "الشلل الرعاش".
وفي قصة "Royal Beatings"، تشارك الابنة، التي نشأت وسط الأكاذيب والطرق الملتوية، أبيها وزوجه في طقس متفجر من المداعبة والعقاب البدني، الدموع والتزين: وبعد ذلك، "يستشعرون الحرج، لكن أقل مما تتوقع على خلفية سلوكهم."  سينتابهم شعور غريب بالتعب الزائف والميل للراحة، ولكن دون شعور بالرضا. "وفي حكاية الكريسماس المباشرة على غير العادة، "The Turkey Season"، تتعلم الفتاة، وهي في الرابعة عشر الآن، كيف تفرغ أحشاء الديوك الرومي ("كانت باردة للغاية؛ أجواف الديوك المظلمة.") لامحة احتمالية وجود مشاعر رومانسية شاذة بين رئيسها وبين موظف جديد عدواني النزعة.
ولقد أدى "السعي وراء الأشياء البعيدة" الخاصة بها؛ بالسيدة مونرو، في قصصها التالية، لقيامها بإعادة بناء عالم أسلافها. وهذه القصص، في تنوعها الواضح، وفي مفاجآتها المركبة وخيالها التاريخي، تشبه القليل من القصص الأخرى. ولابد أن يعود المرء لقصة "الحاج مراد" لتولستوي، و"السهوب" لتشيخوف للمقارنة من ناحية الحجم، ومن بين كتاب القصة المعاصرين لا تسعف الذاكرة سوى بقصة "A Dove of the East" لـ"مارك هلبرين Mark Helprin".
إن الواقعية العائلية المعتادة، في سياقها المتكرر من الشهادة الشخصية، تؤسس لدرجة كبيرة من الأصالة والمصداقية، فنحن نطلب من القصص القصيرة قدرا أقل من المصداقية مما تنقله لنا. وتزهو السيدة مونرو  بجرأتها في تنقل القارئ إلى مدينة أونتاريو الموحلة الجامحة في سبيعينيات القرن التاسع عشر (''Meneseteung'')، كما خبرتها وذلك عبر حساسية إحدى شاعرات المدينة، ثم تنقله إلى مدينة صناعية خلال سنوات الحرب العالمية الأولى وبعدها (''Carried Away'')، وإلى "الأجمة" البرية عند حدود أونتاريو في خمسينيات القرن التاسع عشر في قصة (''A Wilderness Station")، إلى جبال ألبانيا المعزولة في عشرينيات القرن العشرين في قصة (''The Albanian Virgin'').
والجزء الألباني من القصة الأخيرة خلاب في أنثروبولوجيته المتحولة، لكن وصول البطلة إلى مكتبة كندية زاهية الإضاءة إنما يشبه كثيرًا حال البطلة في قصة "اختلاف" من حيث أنها تبدو تعاني قدرًا من العرج. فقيامها بوضع الماضي التاريخي في علاقة مع الحاضر بالإضافة إلى معالجة موضوعاتها ذات الجاذبية الجنسية والحظ العاثر وصولًا لحالات من الكبت وغير ذلك من الموضوعات قبل الفرويدية؛ إنما هي مشكلات تقوم السيدة مونرو بحلها لكن ليست دون توتر واضح في جميع الأحوال. ففي قصة ''Carried Away'' التي تمثل التاريخ الجنسي لأمينة مكتبة في مدينة صغيرة، تنتهي بحالة من الهلوسة كما لو كانت تصويرًا للحظات ذات طبيعة سوريالية وغير ضرورية.
لكن الأكثر أهمية بالنسبة لي، فيما يتعلق بعملية إعادة البناء تلك، هي قصة ''A Wilderness Station'' استحضارها، عبر رسائل مقلدة ببراعة، لوحشية ورواقية وفوضوية الفترة حينما كان الرجال والنساء الذين يخشون الرب يشقون مساراتهم إلى البراري الأمريكية، ثم من خلال تجددها المباغت عبر نزهة بسيارة تدور بالبخار في عام 1907، والتي يتم تذكرها في عام 1959. سيارة البخار بمثابة بساط سحري: " لم يكن يصدر عنها ضجيج وحشي مرتفع ومزيج من السعال والخشخشة مثل غيرها من السيارات، لكنها كانت تسير في صمت مثل سفينة تعلوها الأشرعة على سطح مياه البحيرة دون أن تلوث الهواء؛ فقط كانت تخلف غيمة من البخار."
إن إدراك السيدة مونرو للتقلبات الجامحة للشهوة الجنسية يجعلها تقدم فورات موضوعاتية وتقنية. وقصتان من بين هذه القصص ( Carried Away, Fits) تحتوى عمليات فصل رءوس بداخلهما، وفي قصة أخرى ("Vandals") اجتاح فيضان شرير لنزعة تخريبية منزل مترملة حديثًا بواسطة فتاة وثقت بها. وفي قصة (Labor Day Dinner)، يظهر العنف فجأة، عند نهاية رحلة بأحد لعطلة دينية، بواسطة أسرة ذات سلوكيات متعارضة ومعقدة بشكل نموذجي، في سياق حادث سير كاد أن يقع: " ظهرت سيارة كبيرة أمامهم فجأة، كتلة ضخمة سوداء دون أية أضواء، ولا حتى صوت.
بدا أنها خارجة من حقل ذرة مظلم، لتملأ الهواء أمامهم كما لو كانت سمكة مفلطحة كبيرة على وشك الانزلاق إلى داخل خزان مائي." وسيطر الوجوم على الكبار الجالسين بالمقعد الأمامي، لدرجة جعلت الطفل الجالس بالمؤخرة يسألهم، عند الوصول، "هل أنتم موتى؟ ألم نصل للبيت؟" 
أسئلة جيدة. فأن تكون على قيد الحياة وبالبيت ليس بالوضع الثابت قطعيًا. وهكذا فإن فحوى قصة "Fits"، وبها لسلوك عدد من البالغين سمات لا تحصى؛ "بوسع الناس أن ينتقلوا من حالة لأخرى مثل الأرض." وفي قصصها اللاحقة، تقوم السيدة مونرو بسبر أغوار الطبقات التكتونية لزلازل البشرية.
وتكشف قصة "White Dump" عن طبقات كثيفة وعميقة من الحساسية: رحلة بطائرة صغيرة تتسع لخمسة أشخاص لأجل الاحتفال بعيد ميلاد إحدى الشخصيات، ولشخصية أخرى هاجس مفزع بموتها، ولشخصية ثالثة عرض يجعلها تشعر بأنها "تم إنقاذها، اختيارها، مشاهدتها، وجعلها في أمان." وبالنسبة للسيدة مونرو، لا يمثل الحب علاجًا شافيًا لكل أمراض عالمها المتلهف، ففي واحدة من أكثر حالات عزلتها قسوة، ليدها شخصية تردد أن "الحب ليس لطيفًا أو أمينًا، ولا يرتبط بتحقق السعادة بأي طريقة موثوقة."
إن رؤيتها للصراع الإنساني لأجل السعادة؛ غالبًا ما تكون محض هروب من التعاسة، تتشابه جزئيًا مع النزعة الكنسية الجافة للمواطنين الاسكتلنديين في  إقليم أونتاريو. واقتبست من عظة القس "توماس بوسطن": العالم وحشي، وفيه قد نتمكن من تغيير محطتنا، لكن الحركة لن تخرج عن الانتقال من محطة وحشية لأخرى."  
مثلما هي حكاءة موهوبة وذات بصيرة نافذة، فإن للسيدة مونرو هيمنة على مصائر شخصياتها، تجعل صوت المؤلف يقتحم مسار الحكاية مثل إله لا يستطيع تحمل التزام الصمت.
 وبينما لا يمكنني قول إن كل قصصها قد جلبت لي التنوير والبهجة، فإن تحفظي الرئيس تجاه "المختارات القصصية" هو الكتاب ذاته. فالكتاب بلا افتتاحية أو مقدمة، توضح لمن تعود هذه الاختيارات، أو لماذا؟ فكل قصة من قصص المجموعة سبق نشرها في إخراج بارع ومبهج ضمن مجموعات قصصية سابقة، ومن أحدثها "Open Secret"، والتي صدرت قبل عامين فقط. وهكذا فيمكنني أن أحزر أن الغرض من "المختارات القصصية" هو استجلاب المديح مثلما فعلت أنا بقول؛ ربما يوسع هذا الكتاب من طيف المعجبين الأمريكيين بالسيدة مونرو، لكن بالنسبة لها فهو لا يضيف شيئًا.

هناك تعليقان (2):

  1. بصراحة أنا كمترجم سعيد بإنشاء هذه المدونة كثيرًا، لأنها سوف تجمع شتات المترجمين.
    عمل رائع بحييه بصدق.
    إبراهيم عطية جمعة

    ردحذف
  2. مرورك شرف وإضافة وأتمنى دوام التواصل..
    وسعيد بنشر أعمالك على مدونتي أو نشر الرابط الخاص بمدونتك عندي ..
    بوسعنا التواصل عبر الايميل ...

    ردحذف