- 1-
الرجال يصلون إلي جزيرة الحيوانات
منذ زمن بعيد كانت
هنا سفينة تصارع الأمواج في بحر هائج وفوق سطحها وقف المسافرون والملاحون متشبثين
بالصواري أو ببعضهم البعض ، يراقبون مذعورين الأمواج الهائلة وما تحمله من تهديد
بابتلاعهم . وكان البرق والرعد يحيطهم من كل اتجاه ، وكانت المركب تتقاذفها الرياح
مثل عود ثقاب .
وقف القبطان شاحب الوجه بلا حول أو قوة
بعد تأكده أن المركب لم تعد تحت سيطرته . وكان المسافرون يتمتمون بالصلاة ، لأنهم
عرفوا أن لاشيء يستطيع إنقاذهم من الغرق بقاع المحيط سوي معجزة .
وفجأة حدثت المعجزة ، فلقد رأي القبطان
أن سفينته تجرفها المياه تجاه جزيرة مثل شريط من العشب الأخضر وسط المحيط الصاخب.
رفع القبطان وجهة نحو السماء ومد ذراعيه
شاكراً الرحيم الذي أنقذهم من دمار محقق 0وشارك المسافرون والبحارة في الصلاة
والشكر ، ثم أطلقوا صيحة ابتهاج وقد رأوا السفينة تكاد أن ترسو في خليج صغير
يحميها من الرياح الهائجة 0 وتم نقل الجميع ، مجموعة تلو الأخرى ، إلي الشاطئ
بواسطة قارب صغير. وغمرتهم راحة كبيرة
عندما وطأت أقدامهم أرضا صلبة بعد ما واجهوه من صعوبات ومخاوف على هذه السفينة التي
تقاذفتها الرياح 0 وبعد اكتشافهم للجزيرة، دهشوا لأنهم وجدوها جزيرة جميلة وخصبة 0
فبالإضافة إلي شاطئها الرملي الجميل ، فإن تربتها طيبة وخصبة ، وهناك ينابيع من
المياه ونهيرات وحقول خضراء ومراع غنية بالعشب ، وأنواع عديدة من الأشجار
والنباتات ذات الثمار والأزهار .
ولاحظوا كذلك أن الجزيرة ممتلئة بأنواع
كثيرة من الحيوانات التي لم يسبق أن رأوها في بلادهم ، ولكن أكثر ما أدهشهم أن
الحيوانات بدت أليفة وغير خائفة منهم.
وخلال جولاتهم عبر الجزيرة ، ومرورهم
بالغابات والمروج الخضراء والجبال والسهول ومساقط المياه والبحيرات ، تنبهوا جميعا
إلى شيء غريب بهذه الجزيرة عدم وجود أي اثر يشير إلى وجود بشر .
قال
أحد الرجال : تصور –نحن أول من يطأ هذه الجزيرة من البشر.
فقال
آخر : ذلك يفسر عدم خوف الحيوانات .
قال
ثالث : إنها جزيرتها.
قال
رابع : إنها جزيرة الحيوانات . جزيرة تحكمها الحيوانات.
ورغم اتفاقهم جميعا على أنهم لم يروا أجمل
من هذه الجزيرة ، قرر العديد من ركاب السفينة أن يعودوا إلى بلادهم ليعيشوا بصحبة
أقاربهم وأصدقائهم ، حيث يستطيعون
الاستمتاع بالحضارة ومظاهر الرفاهية .
لكن عددا آخر من الركاب أعجبتهم
الإمكانات التي تقدمها لهم الجزيرة ليبدأوا حياة جديدة .
وفجأة
قال أحد الرجال : أود أن أعيش هنا .
وتساءل
صديق له وهو مندهش :ماذا ؟هل تترك وطنك ؟
أجاب
الرجل :لم لا؟ ألا يوجد (الله) في كل مكان . واتفق معه العديد من الرجال ، فجزيرة
الحيوانات ستكون مكاناً لطيفاً يستطيعون الاستقرار به وبناء بيوتهم . وكانوا سبعين
رجلاً من قرروا البقاء .
لقد جاء هؤلاء الرجال من بلاد شتى ،
ولهم ديانات مختلفة ، فمنهم المسلمون ، المسيحيون ، اليهود وغيرهم .
كذلك لهؤلاء الرجال حرف مختلفة ومهن
مختلفة بينهم الأطباء والمحامون والبناءون والنجارون والباعة والفلاحون والصيادون
والخبازون والخياطون . لقد جمع هؤلاء الرجال السبعون كل المهارات الضرورية لبدء
حياة سعيدة .
أما الرجال الذين قرروا العودة بحراً
إلى بلادهم ، فلقد ساعدوا البحارة في إصلاح ما أصاب السفينة من ضرر خلال العاصفة .
وعند الانتهاء من هذه الإصلاحات ، أصبحت السفينة جاهزة للإبحار من جديد ، اصطف السبعون
رجلاً على الشاطئ ولوحوا مودعين أصدقائهم ، وصاح الرجال على الشاطئ الرملي : ليحفظكم
الله . ورد الرجال على سطح السفينة : ليرشدكم الله إلى حياة سعيدة .
صاح الرجال على الشاطئ : ليعيدكم الله
سالمين إلى بيوتكم . صاح الرجال على سطح السفينة : لينعم الله عليكم في حياتكم
الجديدة . وسرعان ما ابتعدت السفينة ، وغادرت الخليج الصغير لجزيرة الحيوانات
لتبدأ إبحارها فوق مياه البحر الزرقاء الهادئة .
-2-
ثورة الحيوانات
إنها حقيقة – فهؤلاء الرجال الذين شرعوا في تشييد بيوتهم
، أول من وطأوا هذه الجزيرة من البشر . وحتى هذه اللحظة كانت الجزيرة تخص
الحيوانات وحدها ولا يشاركها فيها سوى تلك المخلوقات التي تعرف باسم الـ (جن) ، تلك
المخلوقات التي تعيش بيننا رغم أننا لا نراها .
ويذكر القرآن أن النبي (محمد-صلى الله
علية وسلم - ) كان يتوجه بدعوته إلى البشر والجن ، ولذلك أسلم العديد من (الجن)
ويعيشون الآن وفقا للقوانين التي وضعها الله ولتعاليم رسوله . وكانت الحيوانات
تعيش في سلام بصحبة الجن ، وذلك لأن الجن لم يتدخلوا في الحيوانات وسمحوا لهم أن
يكونوا أحراراً تماماً . لكن الآن وبمجيء الإنسان ، تغير كل شئ .
وكان السبعون رجلاً مشغولين ببناء
منازلهم والتجهيزات التي توفر لهم الراحة والمتعة التي تعودوها في بيوتهم القديمة ،
وبالحيوانات الكثيرة التي تحيط بهم . تذكروا كيف كانوا في بلادهم حيث عاشوا من قبل
– قادرين على الاستفادة من الحيوانات : كيف
كانوا يستخدمون ألبانها ولحومها في صناعة الطعام ، ويستخدمون جلودها وأصوافها في
صناعة الملابس ، وهنـــاك أنواع من الحيوانات – مثل الخيول ، البغال والحمير –
كانوا يستخدمونها في الانتقال من مكان إلى آخر ، ولنقل البضائع وجر العربات أو
للعمل بالحقول في جر المحاريث . وعرفوا أنه بدون مساعدة الحيوانات ، لن تكون
الحياة مريحة ومبهجة أبداً .
وهكذا لم يمر وقت طويل حتى كان الرجال
قد أمسكوا عدداً من الحيوانات ليجعلوها تعمل في خدمتهم وبدءوا كذلك يقتلون بعضها
ليطهوا لحمها ويأكلونه . وفى بعض الأحيان ، كان بعض الرجال يخرجون لصيد الحيوانات
البرية من الغابات أو يوقعونها في الفخاخ ليأكلوا لحومها ويستخدمون جلودها في
صناعة الملابس . وأحياناً كانوا يقومون بصيد الحيوانات من أجل المتعة ، متعة
مطاردة الحيوانات وقتلها 0
وسرعان ما أدركت الحيوانات قدر التغيير
الذي طرأ على حياتها منذ وصول الرجال إلى الجزيرة وتحدثت الحيوانات إلى بعضها ،
مقارنة ما كانت تنعم به من حرية وأمن بالخشونة والعنف اللذين يعاملها البشر بهما
0ولم تعد الحيوانات تحكم الجزيرة ، لم تعد تتحرك كما تشاء وتحب .
تساءلت
الخيول والحمير والبغال : لماذا يبقينا البشر محبوسين طوال الليل أو مربوطين بحبل
ثم يجبروننا على العمل من شروق الشمس حتى غروبها ؟
وتساءلت
الأبقار والخراف : لماذا يجب أن يسلبونا ألباننا كل يوم ويحرمون صغارنا منها ؟
وكذلك دون سابق إنذار يقوم سادتنا بدفعنا لنسقط إلى أحد الجانبين ثم يذبحوننا
ليطبخوا لحومنا ويستخدمون جلودنا في فرش أرضية بيوتهم أو صناعة الأحذية ؟
وتساءلت
جميع الحيوانات : لماذا يعطى البشر لأنفسهم الحق في معاملتنا معاملة سيئة وضربنا ،
لأننا لا نؤدي ما يطلبونه منا كما يريدون تماماً ، أو لا نعمل بما يكفى من جهد
وقوة لأننا متعبون ونحتاج الراحة ؟
من يكون الإنسان ، هذا المخلوق الغريب
الذي يعتبر نفسه متفوقاً علينا ، متفوقاً علينا نحن الحيوانات ، والذي يرى أن له
الحق في امتلاكنا كما لو كنا مجرد عبيد لهم ؟
وهكذا ثارت بعض الحيوانات ضد سادتها
ورفضت العمل لأجلهم . وعندما حدث ذلك ، عاقبهم الرجال بالضرب بالعصي أو السوط ،
وهددوها بأنهم لن يقدموا لها الطعام أو يتركوها ترعى في الحقول .
ونجح عدد محدود من الحيوانات في الهرب
من سادتها ، إلى تلك الأجزاء من الجزيرة حيث لا يستطيع الرجال الوصول إليها . أما
الحيوانات التي مازالت تحت سيطرة الرجال ، فكانت تتعرض للضرب بشكل أشد عند
محاولتها التملص من عملها ، وفى المساء كانت تحبس في الحظائر ، أو يتم ربطها
بالحبال والسلاسل وبعد فترة قصيرة أدركت الحيوانات أنها لا تستطيع مواجهة المعاملة
القاسية التي تلاقيها . فالرجل قوي ويعرف كيف يسيطر عليها . هكذا فكرت الحيوانات
وطأطأت رءوسها وعادت من جديد إلى طاعة سادتها.
لكن
بعض الحيوانات الجريئة صرخت : لكن هذا ليس عدلا ً. حتى لو قتلنا الرجال بضرباتهم
لن نرض بهذه المعاملة .
وتساءلت
حيوانات أخرى : كيف نستطيع إيقافهم ومنعهم عن استغلالنا والتعامل معنا بقسوة كيفما
شاءوا؟ فمن يريد الثورة لكنه خائف من الضربات التي سيتعرض لها ؟ صرخت حيوانات
المزرعة والتي وجدت أنه منذ وصول الرجال إلى الجزيرة أصبحت عبيداً له ، هذا ظلم ..!
وتناقشت الحيوانات فيما بينها عما إذا
كانت قادرة على القيام بأي شيء ، لكنها اتفقت على أنها بلا نفع في مواجهة تفوق
الرجال وذكائهم وقوتهم . وعندئذ اقترح أحد الحيوانات أن عليها التوجه إلى ملك الجن
لتشتكي له وتطلب منه أن يحكم بين الحيوانات والرجال ، ويقرر ما إذا كان الرجال لهم
الحق في التصرف بهذه الطريقة . واتفقت الحيوانات على اتخاذ (البغل) الذي مازال حراً
في الحقل ، متحدثاً عنها .
وهكذا اتجه (البغل) في السر إلى قاعة محكمة (ملك الجن) وقدم له تقريراً حول
قسوة الرجال في التعامل مع الحيوانات كما لو كانت عبيداً لهم ، وطلب البغل منه أن
يحكم بين الحيوانات والرجال .
- 3-
ملك الجن
كان ملك الجن صالحاً وحكيماً 0 وكان
مسلماً يتبع تعاليم الإسلام في كل ما يقوم به 0 وكمسلم حقيقي كان كل ما يبتغيه أن
يرضى عنه الله الرحيم ، ويرى جميع مخلوقات الله تعيش في سلام مع بعضها البعض
0
وبعد ما سمعه من البغل عن قسوة الرجال
مع الحيوانات ،قرر أن ينظر في الأمر ، ولذلك أرسل مبعوثاً إلى الرجال طالباً أن
يأتوا لزيارته 0
وعندما جاء بعض الرجال إلى ملك الجن
وسمعوا منه أن الحيوانات قدمت شكوى ضدهم ، غضبوا من الحيوانات واحتج الرجال وقالوا
: لكن هذا ليس صواباً ،فرغم كل شيء الحيوانات عبيد لنا ونحن سادتها . ولقد خلقها
الله القدير لأجل منفعة الإنسان ، ورغم ذلك نجد الآن بعض هذه الحيوانات تثور ضدنا
وترفض القيام بعملها . وبعضها فر من الأماكن التي خصصناها لتعيش بها . وماذا
بوسعنا غير الضرب لنجعلها تعمل؟ وماذا بوسعنا لنمنعها من الهرب غير حبسها أو ربطها
طوال الليل؟
وعند سماع هذه الكلمات فكر ملك الجن
بعمق لفترة قصيرة قبل أن يقول :أيها الرجال .. تقولون أن الحيوانات عبيد لكم ، من
فضلكم أعطوني برهاناً لذلك.
أجاب الرجال هذه حقيقة معروفه تماماً ، يا
جلالة الملك . الجميع يعرفونها . فمنذ بداية الزمن والحيوانات بشتى أنحاء العالم
وهي تحت إمرة الإنسان .
أعاد ملك الجن طلبه : لكن أعطوني
برهاناً لذلك .فليس مقنعا أن تقولوا ببساطة أن هذا معروف تماما ً . اخبروني لو أستطعتم
،كيف تم إقرار أن الحيوانات عبيد للإنسان .
رد أحد الرجال : هناك
مواضع كثيرة في الكتاب المقدس- في توراة اليهود ، إنجيل المسيحيين ، وقرآن المسلمين
- حيث ذكر فيها بوضوح أن الحيوانات خلقت لمنفعة الإنسان .
قال"ملك الجن" : اذكر لي آية
واحدة من القرآن تقرر ذلك .
رد أحد الرجال : سأستشهد بالآية التي يقول فيها
الله الرحيم " ثم استشهد الرجل بآيات أخرى من القرآن الكريم تتحدث عن
الحيوانات وأنها خلقت لمنفعة الإنسان .
وباهتمام أنصت ملك الجن إلي ما قاله
الرجل وبعدها سأل ملك الجن المتحدث نيابة عن الحيوانات إذا كان لديه ما يرد به .
قال البغل : صحيح يا صاحب الجلالة
فمثلما خلق الله السماوات والأرض والشمس والقمر والسحب ،خلق كل الحيوانات كذلك ،
التي تعيش على سطح الأرض وفي أعماق البحار . وبافتراض - حسب الإنسان - أننا الحيوانات خلقنا الله لمساعدة الإنسان ،
فلا يعني ذلك أن البشر هم السادة ونحن مجرد عبيد ، ليس للبشر أي عذر في معاملتنا
بهذه الطريقة الوحشية . فأين وجد السبب ليظن نفسه متفوقاً على الحيوانات؟
وعندئذ نهض أحد الرجال ووجه خطابه إلى"ملك
الجن" . يجب أن يكون واضحاً للجميع ، أنه من الطريقة التي خلق الله عليها
الحيوانات والبشر قصد أن يكون البشر هم السادة على كل الحيوانات . ألا ترى جلالتك
أن الإنسان خلق ليمشي منتصب القامة ورأسه مرفوعة في فخر ، بينما الحيوانات تمشي
على أربع بوجوهها نحو الأرض؟
كذلك خلق الإنسان وفق نسب سليمة
وجميلة،بينما الحيوانات تبدو على أشكال غريبة ومشوهة ؟ أُنظر على سبيل المثال جسد
الجمل الضخم وعنقه الطويل، في حين أن أذنيه صغيرتين وذيله رفيع وقصير ، كذلك الفيل
، له جسد هائل، خرطوم كبير ونابان كبيران وأذنان كبيرتان وعينان صغيرتان ، وعلى
الجانب الآخر للأرنب جسد صغير وأذنان كبيرتان جداً ، وتستطيع أن تكتشف جلالتكم كم
أجساد الحيوانات غير متناسقة بمقارنتها مع جسد الإنسان .
وبعد أن تأمل البغل ، المتحدث باسم
الحيوانات ،كلمات الرجل قال :لا أتفق مطلقاً مع ما قاله الرجل تواً . و يجب أن
يعرف الإنسان أن كل الحيوانات ، مثلها في ذلك مثل البشر ، من صنع الخالق الحكيم ، وأنه
خلقها بهذه الأشكال لأسباب طيبة . ومن الواضح أن البشر ليس لديهم من البصيرة ما
يجعلهم يدركون حكمة الله العظيمة في خلق كائناته المتنوعة أشكالها .
ولنأخذ الجمل مثالاً ، نجد أن عنقه
الطويل يساعده في الوصول إلى الأرض حيث العشب الذي يتغذى عليه ، كذلك الحال بالنسبة
للفيل الذي يمكنه خرطومه القوي من انتزاع أوراق وأغصان الأشجار ، وبأذنيه
الكبيرتين يهش الذباب ويبعده عن وجهه وعينيه ، وبأنيابه القوية يدافع عن نفسه ضد
أعدائه . وبالنسبة للأرنب فإن أذنيه الكبيرتين توفران له الدفء في الشتاء وتحميه
من حر الشمس صيفاً.
وهكذا يجب أن يعرف الإنسان أن الله
الرحيم شكّل جميع مخلوقاته ،كبيرها وصغيرها حسب احتياجاتها ، ولهذا لا يحق لأي من
هذه المخلوقات ويشمل ذلك الإنسان - أن يدعي لنفسه أنه أجمل من سواه .
ورأى الرجال ملك الجن يهز رأسه مؤمناً
على هذه الكلمات ، وشعروا بالخوف من اقتناع الملك بما قدمه البغل من حجج،بما قد
يجعله يأمر الرجال أن يحرروا جميع الحيوانات التي بحوزتهم.فأي حجج يقدمونها
ليوضحوا أن هذا القرار سيكون ظالماً .
اقترح أحدهم أن يقولوا : هذه الحيوانات
تخصنا ، فهي من ممتلكاتنا مثل غيرها من الأشياء التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا .
ومن هذه الناحية لا تختلف الحيوانات عن منازلنا ، ولا يستطيع أحد إجبارنا على
التخلي عنها .
تساءل
آخر : ولكن ماذا لو طلب منا أن نقدم عقوداً كما هو الحال مع المنازل ، أو شهوداً
لإثبات ملكيتنا لهذه الحيوانات .
يجب علينا أن نجهز الإجابات ونتأهب لعرض
قضيتنا ضد هذه الحيوانات ، هكذا اتفق الرجال فيما بينهم.
ومن جهة أخرى عرفت الحيوانات أن البشر أكثر بلاغة وتفوقها خبرة في الحديث أمام الناس
ولذلك قررت أن أفضل شيء أن تختار كل مجموعة من الحيوانات متحدثاً باسمها أمام ملك
الجن . وهكذا قسمت الحيوانات نفسها إلى سبع مجموعات مختلفة .
المجموعة الأولى تضم حيوانات الزراعة
مثل الأبقار والخراف والخيول ، والتي كانت قد اختارت البغل ممثلاً لها . والمجموعة
الثانية تضم الحيوانات المفترسة وهي الحيوانات التي تصطاد غيرها من الحيوانات
لتتغذى على لحومها . والمجموعة الثالثة تضم الطيور الضارية والتي تتغذى على لحم
غيرها من الطيور والحيوانات ، وتضم المجموعة الرابعة الطيور العادية . والخامسة
تضم جميع الحشرات مثل النحل والتي تعيش في جماعات ، وتضم المجموعة السادسة كل
الحيوانات الزاحفة ، والسابعة تضم كل حيوانات التي تعيش بمياه البحار والبحيرات
والأنهار .
وليتمكن من الوصول إلى قرار في النزاع
القائم بين الحيوانات والبشر ، وبعد ما سمعه عن قيام الحيوانات بتقسيم نفسها إلى
سبع مجموعات ، أعطى ملك الجن تعليماته بأن يذهب مبعوثاً إلى ملك كل مجموعة ليختار
متحدثاً باسم مجموعته خلال المحاكمة التي ستجري ببلاط ملك الجن .
-4-
الأســـــــد
عندما وصل المبعوث إلى الأسد ، ملك الحيوانات
المفترسة ، عرض عليه الأمر وكيف أن مجموعة من الحيوانات احتجت لدى ملك الجن من
معاملة البشر السيئة وأن البشر يزعمون أنهم سادة كل الحيوانات وأنها مجرد عبيد لهم
، زأر الملك وقال : لكن ذلك سخف لماذا يزعمون ذلك وأنا بأمر واحد أطيح بهم إلى كل
الجهات . وبعضة واحدة أفصل رأس الرجل عن جسده . وبضربة واحدة من مخالبي أستطيع أن أطرح
الرجل أرضاً بلا حراك .
قال المبعوث موضحاً : يزعم البشر أن
القوة والشجاعة لا تثبت شيئاً ، فلديهم مواصفات أخرى تجعلهم متفوقين على الحيوانات
، وأنهم ابتكروا أسلحة يدافعون بها عن أنفسهم ضد أقوى الحيوانات وأشرسها وللهجوم
عليها كذلك . والآن تقرر أن يعرض البشر والحيوانات قضيتهم أمام ملك الجن وقضاته
والذين سيقررون بعدها هل البشر على حق في زعمهم بأنهم سادة الحيوانات وأنها عبيد
لهم . إذاً أيها الملك العظيم ، هل ستكون المتحدث الرسمي باسم الحيوانات المفترسة
في بلاط ملك الجن ؟
أخبر الأسد المبعوث أنه يريد أن يختار
من بين رعيته الأنسب ليكون متحدثاً رسمياً . وعندئذ دعا كل الحيوانات المفترسة للاجتماع
من أجل اختيار الحيوان الذي يتوفر فيه الذكاء والفصاحة لعرض قضيتهم بأفضل طريقة
ممكنة وسرعان ما اجتمعت الضواري كلها أمام الملك ،كل النمور والفهود والضباع
والثعالب وغيرها من الضواري التي تستخدم في الصيد وقتل الحيوانات لأكل لحمها .
سأل
الأسد : من يرى نفسه مناسباً ليمثلنا في بلاط ملك الجن ؟
وكان
الذئب أول من تقدم وقال : إذا أردتم من يقدر على الهجوم الوحشي والمفاجئ ، فأنا
الأنسب .
قال
الأسد ملك الحيوانات المفترسة : لا .
وبعده
وقف القط وقال : إذا أردتم من يتسم بالمهارة في جعل الآخرين يحبونه ويثقون به،فأنا
الأنسب.
قال
الأسد:ملك جميع الوحوش المفترسة:لا.
وبعده
وثب الكلب وقال:إذا أردتم من يستطيع أن يهز ذيله وينبح ويبدو صديقاً وفياً ، فأنا
الأنسب .
قال
الأسد ملك الحيوانات المفترسة : لا .
ولم يجد بين هذه الحيوانات من يصلح
لتمثيلها في بلاط ملك الجن . ولذلك سأل وزيره ، النمر ، وطلب مشورته .
قال
النمر :جلالتك- لا يوجد من هو أنسب لهذه المهمة من الضبع الحكيم صاحب الخبرة .
عندئذ
استدار الأسد نحو الضبع وقال :هل تقبل أن تصبح المتحدث باسمنا والممثل لنا في بلاط
ملك الجن؟
قال
الضبع : جلالتك ، لك المسمع والطاعة . أنا في خدمة جلالتك .
زأر
الأسد ، ملك الحيوانات المفترسة ، وقال : ستكافأ إذا نجحت .
قال الضبع : هناك عقبة واحدة يا مولاي .
قال
الأسد : وما هي ؟
أجاب
الضبع : بيننا حيوانات هي أعداء لنا وتخون غيرها من الحيوانات .
تساءل
الأسد : ماذا تقصد بقولك هذا ، ومن الأعداء الذين تتحدث عنهم ؟
أجاب
الضبع : الكلاب يا مولاي .. لقد اختارت أن تعيش في بيوت البشر ، وتعلمت أن تأكل من
طعامهم، هذا الطعام الغريب الذي يأكلونه . الكلاب تأكل الفاكهة والخضروات والخبز
والجبن والزبد وكل أنواع الحلوى ، ذلك الطعام الذي لن يقبل أي وحش يعتز بنفسه أن
يقترب منه حتى لو كان يتضور جوعاً . والكلاب فخورة بعلاقاتها الوطيدة بالبشر ، ولذلك
تعتبر غيرها من الحيوانات أعداء لها ، خاصة تلك التي تبدو لها راغبة في أن تحل
محلها بقلب البشر .
أما السبب في قدرة الكلاب على التعايش
مع البشر ، أنها تشترك مع البشر في العديد من أسوأ الخصال ، مثل : الجشع- التطلع إلى
ما بحوزة الآخرين – والبخل .
هز
الملك رأسه العظيم وقال : أنت على حق بشأن الكلاب ، فرغم أنها من نفس فصيلتنا ،
فصيلة الحيوانات المفترسة ، فهي عدوة لنا وستخوننا لصالح أصدقائها البشر متى أتيحت
لهم الفرصة . أيها الضبع النبيل ، هل هناك حيوانات غير الكلاب من فصيلة – آكلات
اللحوم مثلنا - لكنها مثل الكلاب أصبحت صديقة للبشر وتعيش في منازلهم؟
أجاب
الضبع : هناك القطط . فرغم أن القطط تحب اللحم ، فإنها تستمتع كثيراً بالطعام
الغريب جداً الذي يتناوله الإنسان .
سأل الأسد : وهل للقطط حياة مختلفة عن حياة
الكلاب ؟ لقد ذكرت أنها تعيش بمنازل البشر أيضاً .
أجاب
الضبع :مولاي-رغم أن الكلاب والقطط تعيش بمنازل البشر وهي من رفاقه الدائمين ،
فواضح للجميع أن للقطط حياة أفضل . فبينما تُجبَر الكلاب على العيش خارج منازل
البشر أحياناً ويتم ربطها ، تقضي القطط معظم وقتها داخل المنازل ، تنام في نفس
المقاعد والأرائك التي يستخدمها سادتها بل تنام أحيانا في أسرتهم . وكثيراً ما
تلقى لها لقيمات من موائد سادتها ، وبما لها من حجم صغير ورشاقة تستطيع التسلل
وسرقة الطعام .
وإجمالاً للقطط حياة أفضل من الكلاب ، وتستطيع
أن تروح وتجيء ولا يتم ربطها أبداً. وهذان أقرب الأصدقاء والحلفاء للبشر ، ولا عجب
أن بينهما هذا العداء والتنافس فتقضي معظم وقتها وتبذل قصارى جهدها للحصول على عطف
ومحاباة سادتها . وأود أن أشير ، دون أدنى رهبة من القطط ، أن الكلاب خاصة هي
عدونا الأعظم ، ولا أستبعد أن يجلبها البشر معهم إلى بلاط ملك الجن . زأر الأسد
وقال : ليحفظك الله أيها الضبع النبيل من غدر الكلاب ، ويظلك بأمنه طوال رحلتك إلى
بلاط ملك الجن عندما تذهب إلى هناك متحدثاً رسمياً باسمنا .
-5-
الطيور تختار المتحدث باسمها
وبعد زيارته للأسد ، اتجه مبعوث ملك
الجن إلى مخلوق مجنح ضخم ومدهش، العنقاء
،
وكان هو ملك الطيور . وأخبره مبعوث الملك بأمر النزاع بين الحيوانات والبشر ، وأن
جميع المجموعات من طيور وحيوانات مطلوب منها أن تختار أحد أفرادها ليكون ممثلاً
لها في بلاط ملك الجن . وصدر أمر بحضور جميع الطيور ، من البر والبحر والجبال
والسهول ، أمام الطائر العظيم العنقاء
ملك
الطيور. وعندما حضرت الطيور كلها ، وجه الملك كلامه إلى وزيره الطاووس وسأله من
الطائر الذي يصلح متحدثاً باسمنا في بلاط ملك الجن ؟
متفاخراً
فرد الطاووس ذيله ذا الألوان البديعة وأجاب : أيها الملك المبجل هناك كثير من
الطيور لها صفات رائعة تأهلها لتقوم بدور المتحدث باسمنا . وأمره ملك الطيور أن
يذكر بعضها.
قال
الطاووس : مولاي ، هناك " الهدهد"صديق الملك العظيم "سليمان" ،
ويقال أنه الطائر الوحيد القادر على رؤية المياه بجوف الأرض . وكذلك فإنه يحرك
رأسه إلى أعلى وأسفل كما لو كان يرتل صلواته .
قال
ملك الطيور : إنه طائر جدير بالإعجاب ، هل هناك غيره؟
أجاب
الطاووس : هناك " الديك" ، إنه
يقوم بمهمة نبيلة بصياحه عند الفجر ليستيقظ البشر كي يؤدوا صلواتهم المبكرة ، إنه
يوقظ بصياحه العالي المنطقة المحيطة به مع أول ضوء للفجر .
وافق
ملك الطيور وقال : حقاً إنه طائر جدير بالإعجاب ، هل هناك غيره؟
أجاب
الطاووس : حسناً يا مولاي ،هناك الحمام الزاجل ، فهو قادر على حمل رسائل عبر
مسافات طويلة. فلقد وهبه الله الرحيم هبة مذهلة بأن يعرف طريق عودته مهما بعدت
المسافات التي أطلق منها.
وافقه
ملك الطيور وقال :حقاً إنه طائر جدير بالإعجاب ، هل هناك غيره؟
فرد
الطاووس ذيله الجميل وهو يروح ويجيء مفكراً ، ثم قال : نعم يا مولاي هناك طائر "
السنونو" فهو ماهر للغاية في بناء عشه فهو يبنيه من الطين على جدران المنازل
التي يقطنها البشر . وهكذا يمكن أن نقول إنه جار للبشر . وبالإضافة إلى ذلك فهو من أسرع الطيور ويسافر
إلى البلاد البعيدة لأنه يقضي الصيف في المناخ البارد والشتاء في المناخ الدافئ .
قال
ملك الطيور : حقاً إنه طائر جدير بالاحترام . وطلب مجدداً من الطاووس أن يقترح
طيوراً أخرى تصلح في تمثيله في بلاط ملك الجن .
قال
الطاووس : لقد نسيت أن أذكر لجلالتكم" العندليب" ، إنه أكثر الأصوات
موسيقية ، جسده ليس كبيراً لكن الأغنية التي يشدو بها هي الأجمل ، وبالتأكيد سيفوز
بقلب من ينصت له .
شكر ملك الطيور الطاووس للاقتراحات التي
يقدمها ، ثم صمت برهة مفكراً أيها سيختار .
وعندئذ دعا الطيور وقال لها : نحن الطيور معروف عنا أن أصواتنا جميلة ومتنوعة ، وأظن
أنكم ستوافقونني على أن " العندليب" له أجمل الأصوات ، ولذلك سأطلب منه
أن يمثلنا في بلاط ملك الجان .
حركت جميع الطيور أجنحتها معبرة عن
الموافقة . قال ملك الطيور للعندليب : اذهب
وليكن الله معك في رحلتك وفي بلاط ملك الجن . توكل على الله فهو خير حامٍ ومعين .
-6-
النــحــلـة
وبعد مغادرته للطيور ، توجهه مبعوث ملك
الجن إلى النحلة ، ملكة جماعة النحل . وسرعان ما أمرت النحلة أن تحضر كل أنواع
الحشرات التي تعيش في جماعات ، وتمثل أمامها للاشتراك في اختيار ممثلها في بلاط
ملك الجن .
وهكذا اجتمعت الدبابير والذباب والبعوض
والفراشات وكل المخلوقات صغيرة الجسد والتي لها أجنحة ولكن ليس لها ريش أو وبر أو
شعر ، والتي تعد حياتها قصيرة نسبياً ، وتموت من الحرارة الشديدة صيفاً والبرد
القارس شتاءً . وعندما حضرت كل الحشرات ، عرضت النحلة عليهم مسألة النزاع بين
الحيوانات والبشر بسبب ما زعمه البشر أنهم السادة وأن جميع الحيوانات عبيد لهم .
سأل
دبور : ولماذا يظن الإنسان نفسه متفوقاً علينا ويرانا عبيداً له ؟
قال
مبعوث الملك : بسبب جسده الضخم وقوته الهائلة .
قال
الدبور : لكن الحجم والقوة ليسا كل شيء ، فأحياناً نرى إنساناً بكامل عدته الحربية
، درعه اللامع-سيفه-رمحه وقوسه ، متأهباً لمواجهة جيش الأعداء . وفجأة يتسلل أحدنا
إلى ما أسفل درعه ويلدغه لدغة لا يزيد حجمها عن نخسة إبرة . وفي اللحظة التالية
تجد الجندي العظيم يطلق صيحة ألم هائلة وينسى كلية أمر المعركة والأعداء . فقط
يفكر في الألم الناتج عن لدغة دبور من جنسنا ، لا يتجاوز حجمه مقدمة الإصبع الصغير
في يده . وسرعان ما ينشأ ورم على جلده يجعله بالكاد قادراً على حمل سيفه الذي كان
ينوي أن يقتل أعداءه به .
قالت
النحلة الحكيمة ، ملكة الحشرات : هكذا الأمر حقاً .
قال
زعيم البعوض : نعم هذا حق . إذا كان هناك شخص جالس في مقعده أو مستلق على مخدعه ، فإن
كل ما نحتاجه أن نطير حوله ونهاجم أية أجزاء عارية من جسده ، حتى نجعل من المستحيل
عليه أن يستريح أو ينام ، أليس كذلك ؟ طبعاً سيحاول قتلنا بأن يضربنا بيديه
الضخمتين ، ولكن في الغالب لا ينجح إلا في
صفع وجهه.
قالت
النحلة : هكذا الأمر حقاً . إنها جميعاً
علامات على أن الإنسان رغم حجمه الهائل وقوته ، ليس بالقوة التي يظن ، فحتى أصغر
الحيوانات قادرة أن تتفوق عليه . إذاً لنختار أحدنا ليمثلنا ويعرض هذه الحجج على
ملك الجن .
لكن عندما بدأت الحشرات مناقشة الأمر
فيما بينها قررت أن أفضل من يمثلها الملكة ذاتها النحلة الحكيمة .
وسألت
الحشرات الملكة : ألست جلالتك أفضل من يمثلنا ؟ ولكننا لا نريد أن نطلب ذلك منك
لأننا نعرف كم الرحلة إلى بلاط ملك الجن طويلة وخطيرة ، ونفضل أن تختاري أحد
المخلصين من رعاياك.
واستمعت
الملكة في بهجة إلى ما قاله رعاياها ، وسرعان ما قالت : إذا كنتم تعنون ما تقولون ،سأكون
المتحدثة باسمكم ، وسأكون سعيدة جداً بالقيام بهذه الرحلة . أنا قوية وأجيد
الطيران ، ولذلك أنا أقدر من يتحمل مشاق هذه الرحلة الطويلة .
وبعد أن تمنت لها الحشرات رحله آمنة
وعوده سريعة ،طارت الملكة الحكيمة إلى بلاط ملك الجن .
-7-
الـطيــور الـضـاريــة
كان الـ "رخ"
، ذلك الطائر المذهل ، هو ملك الطيور الضارية الذي توجه إليه مبعوث ملك الجن ، وأخبره أن الطيور الضارية التي تقنص وتقتل
لأجل الحصول على طعامها من اللحم ، يجب عليها أن تختار المتحدث باسمها . وهكذا اجتمــعت
كل الطيــــــور التي لها مخلـــب ومنقار معقوف
، مثل " النسور-الصقور-البوم-العقاب-وغيرها " أمام " الرخ " .
وعرف ملك الطيور الضارية من وزيره أن
البومة بالتأكيد أفضل من يمثل الطيور الضارية . سأله ملك الطيور الضارية: ولماذا
ذلك ؟
قال
الوزير : لأن كل الطيور الضارية تهاب الإنسان وتحرص على الابتعاد عنه قدر
استطاعتها ، ولذلك ستشعر بالتوتر في بلاط ملك الجن ، ولن تجيد الكلام في حضور عديد
من البشر .على الجانب الآخر تعيش البومة جوار البشر ، فهي تختار غالباً أن تتخذ مسكننا
في البنايات القديمة التي هجرها البشر ، كذلك البومة معروفة بهدوئها وتواضعها ، فهي
تقوم بالصيد ليلاً وتمتنع عن الطعام طوال النهار .
وقام
ملك الطيور الضارية باستدعاء البومة ، وسألها : هل توافقين على تمثيلنا في بلاط
ملك الجن؟
طرفت
عينا البومة وهي تفكر لبرهة قبل أن تجيب : ذلك شرفٌ عظيم لي أن تطلبوا مني تمثيل
الطيور الضارية . بالتأكيد تقوم " البوم"
باتخاذ مساكنها قريبة إلى بيوت البشر ، لكنني لا أظن أنني الطائر المناسب لعرض
قضيتنا ضد البشر .
تساءل
ملك الطيور الضارية : لماذا ؟ وقد بدت عليه الدهشة لأن البومة لم توافق على تمثيل
الطيور الضارية .
قالت
البومة : ليس سراً ، فالبشر لا يحبوننا ، فالضوضاء التي يسببها نعيقنا طوال الليل
تجلب الخوف إلى قلوبهم . ولأن البشر لا يحبوننا ، اقترح أن يقوم طائر آخر بتمثيلنا
.
سألها
ملك الطيور الضارية : ومن ترشحين ؟
قالت
البومة : لا أظن أن هناك أفضل من الصقر ، لأنه ليس ضخماً وقوياً مثل النسر الذي
يحترمه البشر ويرهبونه ، لكنهم يحبون الصقر والعقاب . فالبشر يقومون بتدريب الصقور
على الصيد ، ويتخذون من ذلك رياضة يستمتعون بها ، ويمضون ساعات عديدة في الحديث
إلى الصقور وهي جالسة على معاصمهم بينما يطعمونها قطعاً من اللحم المجفف ويربتون
عليها بحب . وينفق الملوك والأمراء مبالغ مالية هائلة لشراء الصقور التي تتميز
بالطيران القوي والقدرة على الانقضاض مثل البرق على غيرها من الطيور أو الأرانب
وعندما يقتل الصقر فريسته ، يأخذها سيده لنفسه ويكافئه ببعض كلمات المديح والإعجاب
.
وهكذا أقر ملك الطيور الضارية رأي
البومة بأن" الصقر " أفضل من يمثل الطيور الضارية ، فهو الطائر الذي
يثمنه البشر . وقامت كل الطيور الضارية بالصلاة من أجل الصقر ، متوسلة إلى الله الرحيم
أن يمن عليه بالفصاحة في بلاط ملك الجن .
-8-
الحيوانات المائية
كانت الحيوانات المائية جماعة الحيوانات
التي توجه إليها مبعوث ملك الجن . وحكى لملكها " ثعبان البحر" القوى أمر
النزاع بين الحيوانات والبشر ، وطلب منه أن يختار من يمثل الحيوانات المائية . وأمر
" ثعبان البحر " بحضور جميع أنواع المخلوقات التي تعيش في الماء بشكل
دائم أو جزئي ، مثل : السلاحف – التماسيح-الدلافين- الحيتان- السراطين- والضفادع .
وللوهلة الأولى بدا (
الحوت ) الأنسب لتمثيل الحيوانات المائية ،لأنه كان الأضخم والأكثر وسامة والأقوى
في السباحة . وهناك سبب آخر لاختيار ( الحوت) ، فالبشر يبجلونه لأنه حمل النـــبي"يــــــونس"
- عليه السلام - في بطنه حتى أوصله آمناً إلى الشاطئ .
وعند عـــرض الأمـــر علــــى " الحوت
" قال : كل ما تقولونه عني صحيح ، ولكن كيف أذهب إلى بلاط ملك الجن بينما
الله الرحيم لم يخلق لي قدمين لأسير عليهما أو جناحين لأطير بهما ؟ فكما تعرفون
جميعاً أستطيع العيش في المحيطات الواسعة ، وإذا ما علقت بأرض جافة أموت سريعاً .
أظن أن السلحفاة التي تستطيع السباحة في البحر والسير على الأرض ، هي الأنسب لهذه
المهمة ، فالسلحفاة تستطيع التنفس تحت الماء وفي الهواء ، هي حيوان حساس وصبور . وهكذا
استدار " ثعبان البحر " إلى السلحفاة وسألها عن رأيها في اقتراح " الحوت
" .
قالت
السلحفاة : إنه لفخر شديد لي أن يرشحني" الحوت " ممثلة للحيوانات
المائية ، لكن يجب أن أكون أمينة وأصرح بأنني غير مناسبة لهذه المهمة . ويرجع ذلك
إلى عدة أسباب : أنني بطيئة السير والرحلة طويلة إلى بلاط ملك الجن . كذلك ، وهذا
الأهم ، أنا غير بارعة كمتحدثة علنية ولن أكون قادرة على تقديم قضيتنا تقديماً
جيداً . وعندئذٍ اقترح أحد الحيوانات ، أن " السرطان "هو الأكثر مناسبة
للقيام بدور المتحدث عن الحيوانات المائية . فله العديد من الأرجل ، فهو مشــــاء
رائع وله مخالب يستطيع استخدامها ضد أعدائه ، وهو مغطى كلياً بدرع واقٍ مثل محارب .
والتفت
" ثعبان البحر" إلى" السرطان "وسأله هل يرغب في تمثيل
الحيوانات المائية ؟
قال
" السرطان "بحزم : أرجو إعفائي يا مولاي ، لا أعتقد أنني مناسب لهذه الخدمة
. فلسبب لا يعلمه سوى الله خلقت بهيئة يراها البشر وبعض الحيوانات قبيحة رغم أنه
عوضني بأشياء أخرى . لكن البشر يهتمون كثيراً بالمظاهر الخارجية ، وأظن أنهم لن
يتعاملوا بجدية مع حيوان يمشي بشكل جانبي ، وتوجد عيناه فوق كتفه .
وسريعاً بادر" ثعبان البحر "
بمواساة " السرطان"وقال له أنه يراه أكثر الكائنات جاذبية ، وليس هناك
ما يسوء في أنه يسير بشكل جانبي وأن عينيه توجدان على كتفه . ورغم ذلك أوافقك
الرأي ، وأسألك : من تقترح لنرسله إلى بلاط ملك الجن ممثلاً لنا ؟
أجاب
" السرطان " : يا مولاي لماذا لا نختار التمساح ؟ فهو مشاء جيد ويستطيع
أن يجري بسهولة . وفمه ضخم وله أسنان حادة وجسد قوي ومظهر يبث الرعب في قلوب
أعدائه .
لكن
عندما سأل"ثعبان البحر" التمساح عن رأيه قال التمساح : قدر ما أرغب في
أن أكون بخدمة جلالتكم ولرفاقي من الكائنات التي تعيش في الماء ، لا أشعر أن لدي
المواصفات اللازم توافرها فيمن يمثلكم . فأنا شديد التوتر وسريع الغضب ، وسرعان ما
أفقد صبري عندما أكون في مواجهة العديد من البشر والحيوانات .
سأل
" ثعبان البحر " التمساح عن إمكانية أن يقترح من يراه مناسباً لتمثيل
الحيوانات المائية .
قال
التمساح : مولاي ، أرشح الضفدع دون تردد فهو أفضل من يقوم بهذه المهمة الحساسة .
فالضفدع هادئ وصبور، لأنه ينقنق في ظلمة الليل مرتلاً صلواته لله العظيم . بالإضافة
إلى ذلك يعيش قريباً من البشر الذين لا يخافون منه .
وعندما سأله " ثعبان البحر "هل
يرغب في السفر إلى بلاط ملك الجن ليكون ممثلاً للحيوانات المائية .
قال
الضفدع : إذا رأيت فخامتك أنني الحيوان المناسب لتمثيل الحيوانات المائية ، فسأطيع
أمرك بالتأكيد . وكل ما أطلبه منك أن تدعوا القادر العظيم وتصلوا له ليرشدني في
المهمة التي أقبل عليها .
وعندئذٍ بدأت الحيوانات المائية صلاتها
من أجل الضفدع ، متمنية له رحلة آمنة وعودة سريعة، وأن يلهمه الله القدير بالأفكار
الحكيمة ويرسل الألفاظ الفصيحة إلى فمه عندما يحين دوره في الكلام .
-9-
الـحيـوانات الـزاحـفــة
كانت آخر زيارة قام بها مبعوث ملك الجن
إلى" التنين " ملك الحيوانات الزاحفة . وعرض عليه مجدداً أمر النزاع بين الحيوانات والبشر ، وضرورة أن
تختار الحيوانات الزاحفة من يمثلها في بلاط ملك الجن . ودعا الملك جميع الحيوانات
الزاحفة لتمثل أمامه الثعابين – العقارب – السحالي –الصراصير – العناكب - صرار
الليل – والنمل وكل أنواع الديدان وغيرها من كائنات التي تزحف على الأرض .
وعندما اجتمعت أمام ملكها " التنين
" نظر إليها مندهشاً من التنوع الهائل بين أشكالها وأحجامها التي منحها
الخالق لها . ورغم ذلك شعر بالشفقة تجاه هذه الكائنات التي تزحف أمامه . لأن
العديد منها أصم أو أبكم أو أعمى ، وهناك البعض بلا أيادٍ أو أرجل أو أجنحة أو
مناقير أو مخالب .
وتوجه " التنين " إلى السماء
وصاح : يا رحيم يا من ترى وتسمع وتعرف كل مخبوء ، يا من خلقت هذه الحيوانات
ومنحتها طعامها ، يا من منحتها الحياة وستقبض أرواحها ، كن مرشداً ومعيناً ، أرشدنا
وأعنا يا صاحب العرش العظيم . وخلفه رددت كل الحيوانات الزاحفة : آمين ، يارب
السموات والأرض .
وعندما رأى " صرصار الليل"
حجم الكارثة التي اكتشفها الملك عند رؤيته لمظهر رعاياه العاجزة عن المعاونة ، اتجه
إلى جدار قريب وبدأ عزف آلاته الوترية والنفخ في مزماره ، مصدراً نغمات جميلة هي
صلاته لله الواحد .
وبعد ذلك تحدث صرصار الليل إلى ملك
الزواحف وقال : " لا تحزن يا مولاي بسبب الأجساد الصغيرة الواهنة للعديد من
رعاياك . ولك أن تعرف أن الخالق العظيم يكن لهم حباً أكثر من حب الأم والأب
لأطفالهما . وعندما خلق الله هذه الأعداد الهائلة من الحيوانات بأشكالها وأحجامها
المختلفة،بعضها ضخم والبعض الآخر صغير ، بعضها قوي والبعض الآخر ضعيف ، جعلها
متساوية ، كل حيوان منها يستطيع أن يعثر على طعامه ويحمي نفسه من أعداءه .
سأل " التنين " : وكيف ذلك ؟ كيف
تستطيع الحيوانات القوية والضعيفة حماية نفسها ضد أعداءها ؟
وفسر له صرار الليل رؤية ذلك بالكلمات
التالية : الحيوانات الضخمة والقوية مثل الأفيال والأسود ، تدافع عن نفسها
باستخدام مخالبها وأسنانها وأنيابها .
وحيوانات أخرى مثل الغزلان والأرانب ، التي
لها أرجل سريعة الجري ، تدافع عن نفسها بالجري بعيد عن أعدائها . بينما كائنات
أخرى مثل الطيور تنطلق إلى الفضاء ، وتلك التي تعيش في الماء تسبح بحثاً عن الأمان
. وهناك كائنات أخرى مثل النمل والفئران ، تختبئ في جحور بجوف الأرض . وعن هذه
الحيوانات قال القادر العظيم في القرآن الكريم : " قالت نملة يا أيها النمل
ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " . وهناك مخلوقات
أخرى مثل السراطين والسلاحف والحلزونات ، وهبها الله دروعاً تحميها من الأعداء . ويقوم
" القنفذ " بتكوير نفسه ليصبح كرة من الشوك ولا يلحق به الأذى . لنحمد
الخالق على هباته .
قال
ملك الزواحف : ليرحمك الله ! موجهاً الشكر لصرار الليل الذي أزاح الحزن عن قلبه ، وأضاف
ليباركك الرب الذي خلقك ومنحك الذكاء والفصاحة ، إنه أنت يا"صرار الليل"
من سيمثلنا في بلاط ملك الجن .
أجاب"صرصار
الليل" : سمعاً وطاعة يا مولاي ، وتمنت الزواحف لصرار الليل رحلة آمنة وعودة
سريعة .
- 10-
في بـلاط مـلـك الـجـن
وفي اليوم التالي تجمع كل المتحدثين
نيابة عن الحيوانات والبشر ، ومثلوا أمام ملك الجن في بلاطه . وكان القضاة والمثقفون من الجن حاضرين .كذلك توافد البشر والحيوانات من كل بقعة في
الجزيرة لينصتوا إلى ما سيقوله المتحدثين ، ويعرفوا قرار ملك الجن في هذه القضية .
نظر ملك الجن إلى اليمين واليسار ، ورأى
كل تلك المخلوقات بأشكالها المختلفة ، ولبعض الوقت صمت من الاندهاش .
وبعد
ذلك استدار إلى أحد المثقفين من الجن وقال له : هل ترى كل هذه المخلوقات الرائعة
التي خلقها الرحيم لتعمر الأرض ؟
قال
الجن المثقف : نعم أراها يا مولاي . أراها بعيني رأسي ، وأرى خالقها بعين قلبي . لقد
دهشت جلالتكم برؤيتها ، لكنني دهشت لقدرة الخالق الذي شكلها ووهبها ما تحتاجه . إنه
الله خالق كل هذه المخلوقات : الجن – البشر – الملائكة وكل نوع من الحيوانات . لله
الحمد على نعمة الإيمان التي وضعها بقلوبنا وهدانا للإسلام وجعل البشر خلفاء له
على هذه الأرض . ولله الحمــــد لأنه وهبـــنا ملكاً له لكل هذا العلم والحكمة
والصلاح . والآن أنصتوا لملك الجن وأجيبوا بصدق عن أي سؤال قد يوجهه لكم.
وحدّق ملك الجن في كل الرجال والحيوانات
الماثلة أمامه . وإلى أحد الجانبين لمح ملك الجن " الضبع " وكان واقفاً
إلى جوار الحمار وقد بدا حزيناً وخائفاً لوجود العديد من الكلاب ، أعظم أعدائه ،
التي تقف جوار أصحابها البشر .
سأله
ملك الجن : من تكون ؟
أجاب
" الضبع " : أنا الضبع يا مولاي
، وحاضر هنا متحدثاً بالنيابة عن الحيوانات المفترسة .
سأله
ملك الجن : من أرسلك ؟
أجاب
" الضبع " : ملكنا يا مولاي .
سأله
ملك الجن : ومن يكون ؟
أجاب
" الضبع " : الأسد القوي العظيم .
سأله
ملك الجن : وبأي أرض يعيش ؟
أجاب
" الضبع " : في الغابات والصحاري يا مولاي .
سأله
ملك الجن : ومن رعاياه ؟
أجاب
" الضبع " : الضباع – الذئاب - النمور والثعالب هي رعاياه ، جميع
الحيوانات التي تقاتل بالناب والظفر وتأكل اللحم .
وسأله
ملك الجن : هل الأسد ، ملككم ، يعامل رعاياه معاملة حسنه وعادلة ؟
أجاب
" الضبع " :حسنة وعادلة جداً يا مولاي .
ووجه ملك الجن نفس الأسئلة لكل
المتحدثين نيابة عن جماعات الحيوانات المختلفة ، مستفسراً عمن يكون ملوكهم
والأماكن التي تعيش بها .
وبعد ذلك لاحظ الملك وجود الضفدع ، والذي
كان يعلو قطعة من الخشب بالقرب من شاطئ النهر .
وكان الضفدع ينق مؤدياً صلاته إلى
الخالق العظيم ، مثله في ذلك مثل بقية الحيوانات.
وسأله
ملك الجن : من تكون ؟
أجاب
الضفدع : أنا الضفدع ، المتحدث بالنيابة عن الحيوانات المائية .
سأله ملك الجن : من تكون الحيوانات المائية ؟
أجاب
الضفدع : التماسيح – الدلافين - الحيتان والسراطين وغيرها كثير من الكائنات المائية
، التي لا يعرف عددها سوى الله .
وعندئذٍ طلب الضفدع الإذن بأن يتحدث
نيابة عن الكائنات المائية وبقية الحيوانات وبدأ الضفدع بقول : إنه من السخف أن
يزعم البشر أنهم السادة وكل الحيـــوانات عبيد لهم . وأكمل الضفدع : يا مولاي ، لا
يوجد حيوان أفضل من الآخر . الحيوانات تختلف بعضها عن البعض ، لأن الله بحكمته
خلقنا مختلفين . وتعرفون جلالتكم أن أضخم وأقوى الحيــوانات قد تلدغه حشرة ويموت
بسببها . والشيء نفسه ينطبق على البشر . ولا
يختلف البشر عن الحيوانات في هذا الأمر . ففي بعض الأحيان يكون البشر هم المفترسون
، لكن في أحيان أخرى يكونون الفريسة . ونهــاية البشر ، مهما كانت ، هي نفس نهاية
الحيوانات جميعاً ، نولد لنموت . وما أغرى البشر بالتفكير في أنهم متفوقون عن
الحيوانات ، أنهم نجحوا في احتجاز وسجن حيوانات الزراعة التي لا تؤذي ولا تعض أو
تلدغ ، والآن يعاملونها معاملة قاسية ليلاً ونهاراً . كذلك يقوم البشر باصطياد
العديد من الحيوانات الضارية والطيور ليأكلوها .
..أنصت ملك الجن بانتباه عظيم إلى كلمات
الضفدع ورأى أنه صادق في كل ما قاله .
- 11-
الـنـحلة تـحـكي حـكـاياتـها
وبعد استيعابه لكل ما قاله الضفدع ، نظر
إلى صفوف الرجال الواقفين أمامه وسألهم : من ملككم ؟
أجابه
الرجل : لدينا كثير من الملوك .
سأله
ملك الجن :كيف ذلك ؟ للحيوانات ملك لكل جماعة ، وأنتم تقولون أن لديكم ملوكاً
كثيرين .
قال
أحد الرجال : هذا صحيح ، لأن حياة البشر أكثر تعقيداً من حياة الحيوانات ، فملوك
البشر يحتاجون الجيوش للدفاع عن ممالكهم ضد أعدائهم . كذلك يحتاجون القادة
العسكريين والوزراء والمحافظين وجامعي الضرائب والقضاة ورجال الدين ، لأنه لا توجد
مملكة يعيش رعاياها في أمان دون قواعد دينية تخصها . وبنفس الطريقة تحتاج البلاد
المختلفة ملوكاً مختلفين ليحكموها . وتوجد العديد من الدول والبلاد على هذه الأرض ،
وتختلف الواحدة عن الأخرى في اللغة والمعتقدات والعادات ولهذا السبب هناك ضرورة
لوجود عدد كبير من الملوك ليحكموا كل هذه البلاد والشعوب .
قال
ملك الجن : الآن فهمت لماذا للبشر العديد من الملوك بينما لكل جماعة من الحيوانات
ملك واحد ، لكن هل يختلف ملوك البشر عن ملوك الحيوانات ؟
أجاب
الرجل : نعم يختلفون يا مولاي .
قال
ملك الجن : اعرض لي مصادر هذا الاختلاف .
أجاب
الرجل :كل ملوك البشر خلفاء للرب على الأرض .فالله سمح لهم أن يبسطوا حكمهم على أرضه
، وجعلهم مسئولين عن مخلوقاته . الله حاكم الكون وكل المخلوقات ، من أرقاها إلى
أدناها .
وكان ملك الجن ينصت باهتمام لما يقـــوله
الرجل عن ملوك البشر ، وبعدها جال ببصره على الحيوانات المصطفة أمامه . وفجأة سمع
أزيزاً يشبه أعلى نغمة تصدر عن آلة الكمان ، إنها " النحلة " ، فهذه هي
الطريقة التي تتلو بها النحلة صلواتها لله .
سألها
ملك الجن : من تكون ؟
قالت
: أنا " النحلة " يا مولاي المتحدثة نيابة عن الحشرات التي تعيش في
جماعات ، وأنا ملكتهم كذلك .
سألها
ملك الجن : إذا كنتِ ملكة ، لماذا لم ترسلي أحد رعاياك مثلما فعلت الحيوانات
الأخرى ، لتوفري على نفسك مشقة المجيء إلى بلاطي ؟
قالت
النحلة : لقد قرر رعاياي أن أتحدث نيابة عنهم في بلاطك يا مولاي ، ولأنني الملكة
أدركت أنه من الصواب أن أقوم بهذه الرحلة ، خاصة وأنني الأقدر على الطيران
للمسافات طويلة .
كان ملك الجن مندهشاً لأن النحلة أظهرت
كل هذا الاحترام لرعاياها وتعرضت للمشقة والمخاطر طول الطريق إلى بلاطه .
قال
ملك الجن : حدثيني عن نفسك ، لعلني أعرف شيئاً عن الملك الوحيد بين ملوك الحيوانات
الذي فضل راحة وأمان رعاياه على راحته وأمانه ؟
وعن ذلك قالت النحلة : لقد وهبني الله القادر
العديد من الهبات ، وهبني جسداً رغم حجمه الصغير ، فإنه يقوم بكل الوظائف المطلوبة
منه ، فعلى كتفي وضع جناحــين ماهرين أستطيع الطيران بواسطتهما . ووهبني لدغة مثل
الشوكة ، أستطيع استخدامها سلاحاً ضد من يسعون لإيذائي . وأهم الأشياء جميعاً أن
الخالق وهبني القدرة على الاحتفاظ بالسوائل التي أستخلصها من الأزهار داخل جسدي ، وأحولها
إلى شمع وعسل أتغذى وأطفالي عليه ، وأستطيع تخزينه لنستخدمه كغذاء في أيام الشتاء
القاسية والتي تختفي خلالها الزهور .
وكان ملك الجن مسروراً من أسلوب النحلة
في عرض ما وهبه الله لها ، وسألها : وفي أية أماكن يقيم النحل مساكنه ؟
أجابت
النحلة : على قمم الجبال وفي السهول والوديان الممتلئة بالأشجار ، وفي أي مكان
توجد به الزهور التي نستطيع استخلاص رحيقها وتحويله إلى عسل . كذلك يقيم بعض النحل
مساكنه بالقرب من مساكن البشر .
سألها
ملك الجن : وهل يعاملكم البشر معاملة طيبة ؟
أجابت
النحلة الحكيمة : لا على الإطلاق ، وهي تهز رأســها الصغير ، ففي بعض الأحيان يبحث
البشر عنا . وإذا كنا غير قادرين على الدفاع عن أنفسنا ضدهم ، فإنهم يدمرون
مساكننا ويقتلون أطفالنا ويسرقون العسل الذي صنعناه وخزناه . يأخذون كل العسل ولا
يتركون لنا شيء. ويسمحون لأنفسهم أن يقوموا بهذه الاعتداءات ، بحجة أنهم السادة
ونحن العبيد ، وأن كل شي نفعله يجب أن يكون لصالحهم وليس لصالحنا . أنصت ملك الجن
بانتباه كبير إلى ما قالته الملكة صغيرة الجسد عظيمة الحكمة .
كذلك سمعت بقية الحيوانات القصة الحزينة
التي قصتها النحلة عن الطريقة التي يعامل بها البشر هذه المخلوقات العاملة
والمسالمة .
-12-
فـصـاحـة الـنحلــة
وبعد إنصاته لكثير من المتحدثين بالنيابة
عن الحيوانات ، وجه حديثه إلى الرجال المجتمعين في بلاطه وقال لهم : لقد سمعتم ما
قالته الحيوانات ضدكم . سمعتم شكواها من
المعاملة القاسية التي تعاملونها بها . فهل
لديكم أي شيء تقولونه لتأكدوا أنكم حقاً سادة كل هذه الحيوانات وأن لكم الحق في
معاملتها كما تشاءون ؟
ووقف أحد الرجال وأخبر ملك الجن عن
العديد من العلوم والمعارف التي يحوزها البشر ، وكيف يعمل البشر دون انقطاع
بعقولهم وأبدانهم لزيادة معارفهم وتحسين حياتهم بواسطة الصناعة والزراعة والتجارة .
وقال أن كل هذه الأشياء دليل على أن
البشر متفوقون على الحيوانات ، لأنه عبر
الأزمان لم تنجز الحيوانات أي تطور ولن تحاول أبداً زيادة معارفها أو تحسين حياتها
اليومية . وتحدث الرجل طويلاً عن العديد
من الابتكارات التي قدمها البشر في شتى مجالات العلم والتعليم . وصمتت الحيوانات
عند سماعها لهذه الأشياء لأنها لم تفهمها . فكل ما تعرفه الحيوانات جميعها أن
البشر مهرة في العديد من المجالات التي تجهلها الحيوانات ، ولم يجد حيوان واحد
شيئاً يقوله ضد ما قدمه الرجل من حجج تؤكد زعم البشر بأنهم متفوقون على الحيوانات .
ومرة أخرى تكلمت النحلة الحكيمة نيابة
عن جميع الحيوانات ، وقالت : مولاي ، هؤلاء البشر يقولون أنهم يحوزون معرفة في شتى
العلوم التي لا تعرف الحيوانات عنها شيئاً ، ذلك صحيح نوعاً ما ، لأن البشر
يتحدثون وفقاً لوجهة نظرهم ، ومعروف عن البشر أنهم لا يعيرون آراء الآخرين
انتباهاً . لأنه إذا كان الرجل قادراً على النظر إلى الأشياء وفقاً لوجهة نظر الآخرين ، لأدرك في
الحال أننا نحن الحيوانات نتعامل جيداً مع حياتنا دون حاجة لكل هذه العلوم التي يتفاخر
بها البشر ، لأن لنا أنواع المعرفة التي تناسب حياتنا . ويجب أن يكون البشر قادرين
على إدراك أن الحيوانات قادرة على إنشاء
حياتها بإتقان مثلما يفعل البشر .
قال
ملك الجان : اضربي لنا بعض الأمثال أيتها النحلة الحكيمة ؟
قالت
النحلة : هناك مثل واحد أستطيع أن أضربه عن الطريقـــة التي ننظم بها نحن النحل
حياتنا بأنفسنا ، كيف نبني مساكننا الصغيرة متقنين البناء ، فكل مسكن يقع مباشرة
إلى جوار الآخر ، ونبنيها دون استخدام لأي أدوات أو الاستعانة بعلم الهندسة .
انظروا للطريقة التي نجعل بها أنواع
محددة من النحل تعمل في النقل وأخرى في الحراسة . انظروا للطريقة التي نجمع بها
الشمع بأرجلنا من أوراق الشجر ، وكيف نجمع العسـل بشفاهنا من الأزهار .
انظروا كيف نتغذى وأطفالنا خلال فصل
الشتاء على العسل الذي خزناه ، وكيف عندما يحل فصل الربيع ويصبح الجو أدفأ وتتفتح
الأزهار ، نخرج جميعاً إلى الحقول . وهكذا نعيش في سلام وتآلف مع الطبيعة وفقاً
للتعاليم التي لقنها الخالق لنا .
وعندما
سأل ملك الجان : هل لديك أمثلة أخرى عن الطريقة التي تنظم بها مخلوقات الرب حياتها
دون أن يكون لديها أي كتاب أو معرفة بأي علوم .
أجابت
النحلة : مولاي ، إن معجزات الخالق القدير أكثر من أن تحصى ، الطبيعة ممتلئة
بأمثلة كثيرة تكشف كيف منح الخالق مخلوقاته القادرة على تنظيم حياتها حسب احتياجاتها
.
مثلاً هناك النمل وكيف يبني مدناً كاملة
داخل الأرض ، مدناً تحتوي الأنفاق والطرقات والمخازن التي يملأها النمل بالحبوب . انظروا
كم النمل منظماً في بناء هذه المنازل ، وفي الخروج لجمع الطعام لتخزينه .
فإذا خرجت نملة بحثاً عن طعام ووجدت
شيئاً ثقيلاً جداً ولا تستطيع أن تحمله وحدها ، تعود إلى بقية النمل بهذه الأنباء
ليخرج بصحبتها عدد من النمل وتتعاون جميعها في سحب هذا الطعام إلى حيث يتم تخزينه .
وإذا قام البشر بدراسة حياة هذه
المخلوقات الصغيرة سيكتشفون أن للنمل أيضا معارفه الخاصة التي يستخدمها مباشرة في
حياته اليومية . وسيفعل البشر خيراً لو قاموا بدراسة " دود الحرير " الذي
يعيش في قمم الجبال المرتفعة ، وتبنى مساكنها في أشجار التوت ، التي تتغذى على
أوراقها ، وكيف تستطيع أن تكور جسدها الهش الصغير لتخرج منه خيوطاً دقيقة . وأوضحت
النحلة الحكيمة كيف أن جميع المخلوقات الزاحفة تضع البيض وترقد عليه حتى تخرج
صغارها التي ترعاها بنفس الاهتمام والحب الذي يرعى به البشر صغارهم .
وبخلاف البشر ، تفعل الحيوانات ذلك دون
أن تتوقع شكراً من أطفالها ، فقلد خلقت وبداخلها غريزة التكاثر ويقين أن أطفالها
ستعيش بعد موتها . ولهذا لا تبحث عن شكر من صغارها ، لأن الطبيعة علمتها ذلك .كيف
إذاً يزعم البشر أنهم متفوقون على غيرهم من المخلوقات .
-13-
الـعنـدلـيب يـتـحـدث
هنأ ملك الجن النحلة على فصاحتها ، ثم
التفت إلى البشر ليطلب منهم أن يقدموا ما يثبت تفوقهم على الحيوانات .
نهض أحد الرجال وتحدث عن المميزات
المقصورة على جنس البشر والتي تثبت أنهم سادة الحيوانات .
تحدث عن الأنواع العديدة من الطعام
الشهي الذي يطهوها البشر ليتناولوها ، وعن الملابس الراقية المصنوعة من القطن
والحرير التي يلبسونها ، وعن الأثاث غالي الثمن والأبسطة التي يبسطونها في منازلهم
.
وكان " العندليب " ، المتحدث
نيابة عن الطيور ، جالساً على فرع شجرة يغني بصوته العذب وهو ينصت إلى ما قاله
الرجل .
وبعدها قرر أن يرد على الرجل . قال
العندليب : كل هذه الرفاهية ،كل هذه الملابس باهظة الثمن ، وكل الملابس الراقية
والأطعمة والمشروبات الشهية والمنازل الفخمة التي يعيش بها البشر ، جميعها ليست
سوى أسباب للقلق والألم لهم .
سأله
ملك الجن : كيف ذلك ؟ فسر لنا ما تقول .
عندئذٍ
أكمل " العندليب " كلامه : مولاي - إن الحياة المعقدة التي اختارها
البشر تحتاج الكدح بلا توقف . دائماً يحتاجون القيام بهذه الأعمال مثل حرث الأرض
وبذر البذور وري حقولهم وحفر الآبار وجني المحاصيل ونقلها ، وبعد ذلك يقومون
بإعداد وطهي الطعام الذي زرعوه .
كذلك يعملون دائماً من أجل المال اللازم
لشراء كل مظاهر الرفاهية التي جعلوها أساسية في حياتهم ، والتي لا تحتاجها
الحيوانات . ولا يشعر البشر بالرضى والاكتفاء ، دائماً يتوقون للحصول على المزيد .
ولهذا السبب يعاني البشر من آلام الجشع والحسد والبخل .
هزّ ملك الجن رأسه موافقاً على ما قاله
العندليب ، وبعدها أكمل العندليب ليشرح كيف أن
للطيور حيوات مختلفة ، وكيف أنها حيوات بسيطة وغير معقدة .
قال
العندليب : مولاي - إن طعامنا يخرج من الأرض حيث ترقد البذور في انتظار مياه الأمطار
التي تسقط من السموات وطعامنا هو التوت والعشب وثمار الفاكهة . ونجد هذه الأطعمة
فصلاً بعد فصل وعاماً بعد عام ، دون أن نجهد أجسادنا وعقولنا . ونحن راضون بما
يمنحه لنا الله القادر ولا نسعى للحصول على أكثر من ذلك . فعندما نتناول ما يكفينا
لهذا اليوم ، نترك بقية الطعام لليوم التالي أو لطيور أخرى . لا نشعر بالقلق على
المستقبل أو من اقتحام اللصوص لمساكننا ، ولذلك ليس لأعشاشنا أبواب أو أقفال . ويوضح
ما سبق أننا نبلاء وأحرار , نسير أمور حياتنا وفقاً لإرادة الله لنا .
ومباشرة
بعد أن أنهى العندليب كلامه ، نهض رجل وقال موضحاً : إن الله القدير حبا البشر بأن أرسل لهم أنبياء
برسالاتهم وكتبهم المقدسة،بأوامره ونواهيه . ويجعل البشر أنفسهم أطهار اً ونبلاء
بالوضوء والصلاة والصيام والزكاة وبمشاركة غيرهم من المسلمين الصلاة في المساجد
والكنائس والمعابد . وبفضل كل ما سبق ، هكذا زعم الرجل ،حظى البشر بوضع خاص بين
جميع المخلوقات بما يظهر تفوقهم عنها .
أنصت"العندليب"إلى كلمات
الرجل ، ورد بسرعة موجهاً كلامه إلى البشر الجالسين في بلاط ملك الجن : إذا
انتبهتم أكثر أيها البشر إلى ما تقولونه ، إذا فكرتم فقط قبل أن تتحدثوا ، ستكتشفون
أن كلماتكم تدينكم أكثر مما تنصفكم . فمن الواضح تماماً أن أوامره بالصلاة والصوم
وبالزكاة ومعاملة الآخرين باللين والرحمة ، موجهة إلى البشر أكثر من الحيوانات
لأنكم يا بشر تتصرفون بشكل مـؤذٍ وشرير . أما نحن الطيور والحيوانات فليس من
طبيعتنا أن نقوم بأفعال شريرة ولذلك لا حاجة لأن يتم حثنا على فعل الخير أو
تحذيرنا من فعل الشر .
مثلاً الوضوء قبل أداء الصلاة مطلوب من
البشر بسبب رغباتهم الشريرة وشهواتهم التي ينغمسون فيها ليل نهار وطوال العام . وعلى
الجانب الآخر ، فإننا نحن الحيوانات لدينا أوقات محددة للجماع لا تدفعنا لها
الشهوة أو الرغبة في المتعة بل غريزة التكاثر وحفظ النوع وكما تعرفون أيها البشر
فإن الأنبياء - عليهم السلام - أطباء يداوون علة الروح ، ومن المعروف أن المرضى
وحدهم يحتاجون الأطباء . أيها البشر ألا ترون أن أرواحكم عليلة وتحتاجون للأطباء ؟
وصمت " العندليب " وتلفت حوله
ناظراً إلى الرجال الحاضرين ، وقد توقع أن أحدهم سيقف ويناقش ما قاله .
وعندما رأى أن جميعهم لزموا الصمت ، أكمل
" العندليب " : تقولون أن المحبة والإحسان جزء من عقيدتكم . أليس سبب
ذلك أنكم جميعاً جشعون بطبيعتكم ، وتسعون إلى جمع المزيد والمزيد من الأشياء حولكم
، تكرهون أن تمنحوها للأصدقاء والجيران وليس للغرباء ؟
أما نحن الطيور لا نتبع تلك الوسائل
الشريرة ونعيش سعداء يوماً بعد يوم . أما بالنسبة للأماكن الخاصة التي تتعبدون
فيها ، والاتجاهات خاصة التي يجب التوجه إليها عند الصلاة ، فلا حاجة بنا لهذه
الأشياء . أينما توجهنا نرى الله ، وكل حركاتنا وأفعالنا هي عبادة لله ، فنحن
دائماً نسبح بحمد الله القدير كلما رفعنا صوتنا بالغناء .
وكان الليل قد دنا ، لذلك تمنى ملك الــجــــن
للجميع ليلة هانئـــة ، وأمر أن يلتقي الجمـــيع - الرجال والحيوانات - في الصباح
التالي بإذن الله .
-14-
رجـل من مـكـة والـمدينـة
وفي اليوم التالي عندما اجتمع الجميع
أمام ملك الجن في بلاطه ، وبعد أن فكر الملك في الحجج التي قدمها المتحدثون
بالنيابة عن الحيوانات ، وجه كلامه للرجال : أيها البشر ، اتضح لي أن كثيراً من
الأشياء التي تتباهون بها ليست دليلاً على أنكم أفضل من الحيوانات وأنها عبيد لكم .
من الأفضل أن تدركوا أننا جمعياً عبيد الله القدير ، فهو خالقنا الذي منح لبعضنا
السلطة على البعض الآخر .
لقد أنصتنا لما قلتموه عن الأسباب التي
جعلتكم تعتبرون أنفسكم أرقى من الحيوانات ، وسمعنا ردود الحيوانات . والآن هذه
فرصتكم الأخيرة أيها البشر لتقدموا حججاً جديدة ، إذا كان لديكم شيء منها ، قبل أن
أصدر حكمي .
وعندئذٍ وقف رجل من الحجاز ، رجل أتى من
المدينتين المقدستين : مكة والمدينة ، وقال : مولاي - هناك شيء آخر يجعلنا مختلفين
عن الحيوانات ، شيء لم يذكره كل من تحدثوا ، وأظن أن جلالتكم ستدركون أهميته
العظمى .
وأمره ملك الجن أن يتحدث ، وأمر الجميع
أن ينصتوا لما سيقوله الرجل القادم من الحجاز : لقد وعدنا الخالق ؛ رب كل
المخلوقات ؛ إننا نحن البشر ودون غيرنا من المخلوقات سنبعث من قبورنا يوم الحساب .
لقد وعدنا الله القدير أننا سنخلد في جنة الفردوس ، حيث سنكون إلى جوار بهائه
العظيم . وكل ذلك مذكور في كتابة المقدس " القرآن الكريم " .
هذا وعد الله للعباد من البشر والذي لم
يشمل الحيوانات . أليس هذا برهاناً ، يا مولاي ، على أن الله قد اختارنا سادة وجعل
الحيوانات عبيداً لنا ؟
ومرة أخرى تولى" العندليب " الرد
، وقال: أنت على حق أيها الرجل في كل ما قلته ، لكن يبدو أنك نسيت - أو تعمدت
إغفال - الجانب الآخر للوعد الذي قدمه الخالق القدير للبشر . لم تذكر أن الإنسان
عندما وعد أن لديه الفرصة لدخول الجنة حيث يخلد هناك في سعادة ، فربما يجد نفسه
مطروحاً في نار الجحيم عقاباً على ما ارتكبه من خطايا طوال حياته ، وهذا أيضاً
مذكور في القرآن الكريم جنباً إلى جنب مع الآيات التي تتحدث عن مباهج الفردوس .فكما
أعطيت نعمة الخلود في الجنة للبشر فقط ، كذلك العذاب بنار الجحيم مقصور على البشر
وحدهم . أما نحن الحيوانات فلا نطمح في دخول الجنة أو نخاف الجحيم ، لأننا لم نوعد
بمكافآت أو نحذر من العقوبة . ولذلك لا نرى أنكم في وضع أفضل منا ،لتظنوا أنفسكم
مفضلين علينا .
وشعر " العندليب " بالسعادة
من الطريقة التي تحدث بها ، ولهذا وقف على فرع الشجرة وبدأ يصدح بصوته الجميل .
وقاطع غناءه الرجل القادم من الأرض
المقدسة الذي نهض ثانية ووجه حديثـه إلى ملك الجن : مولاي - لم يعرض هذا الطائر
الحقيقة كاملة . إنه يقول أن وضعنا لا يختلف عن وضع الحيوانات والطيور ، على أساس
أننا قد نذهب للجحيم وليس الفردوس . ولكن في كلتا الحالتين سيستمتع البشر بالخلود .
وكان على" العندليب " أن يذكر أنه في يوم الحساب سيقرر القدير إذا كنا
قد عشنا تبعاً لأوامر وتعاليم أنبيائه ، أن نجازى بحياة خالدة في الفردوس حيث
سنكون بصحبة الأنبياء والقديسين والأبرار والأطهار .
أما إذا كان الحكم ضدنا ، وقادنا عملنا
إلى لهيب الجحيم ، سنظل على أمل أن يقوم الأنبياء - عليهم السلام ، وخاصة نبينا "
محمد " عليه الصلاة والسلام - بالتوسل إلى القدير من أجلنا لينقلنا من لهيب
الجحيم إلى مباهج الفردوس .
ذلك ما غفله " العندليب " ،رغم
أنه أكثر ما يوضح أن البشر قد اختصهم القدير ، ولهذا نرى أنفسنا سادة ونرى
الحيوانات عبيداً لنا نتصرف معها بالطريقة التي نراها .
وبهذا العرض القوي الذي قدمه الرجل القادم من
مكة والمدينة ، كمتحدث بالنيــابة عن البشر ، لم تجد الحيوانات شيئاً تقوله واكتفت
بتبادل النظرات .
وعندئذٍ شكر "ملك الجن" الرجال
والحيوانات ، وأخبرهم أنه بحاجة للبعض الوقت ليستشير قضاته والمستنيرين من رعاياه ،
وذلك قبل إصدار قرار بشأن هذا الأمر المهم . وأخبر المجتمعين أن هناك احتفالاً
كبيراً تم إعداده لهم ، وبه كل أنواع الطعام الخاص بشتى أنواع الحيوانات والطيور
والحشرات ، والعديد من أطعمة البشر الشهية . وعليهم بعد أن يأكلوا حتى الشبع ، أن
يعودوا لسماع حكمه .
-15-
ملك الـجن يـصـدر حـكمـه
وعندما عاد كل الرجال والحيوانات إلى
بلاط ملك الجن ، اجتمعوا وقد سيطر عليهم التطلع في قلق لوصول ملك الجن . وعندئذٍ
دخل الملك ، وتبعه القضاة والمستنيرون من رعاياه . جلس الملك على العرش ، في ظل
الصمت المطبق ، تبادل كلمات معدودة مع مرافقيه من الجن قبل أن يعلن حكمه ، وقال : "
أيها المجتمعون من الرجال والحيوانات ، لقد استمعت والمستشارون لكلماتكم الفصيحة ،
وتأثرنا بما قاله المتحدثون نيابة عن البشر بشأن مهاراتهم في العلوم وما حصلوه من
تعليم ومعارف وغيرها من المجالات التي تجعلهم يزعمون أن لهم الحق في معاملة
الحيوانات ككائنات أدنى منهم وعبيد لهم . ولقد أتضح لنا بالتأكيد أن البشر متفوقون
على الحيوانات في العديد من النواحي .
وبينما كان ملك الجن يقول كلماته تلك ، بدأ
الرجال الجالسون أمامه ينظرون لبعضهم البعض ويتحدثون فيما بينهم وقد غلبت عليهم
الإثارة ، لأنه بدا لهم أن قرار الملك سيكون لصالحهم . ووصل الأمر بأحد الرجال أن
صفق مبتهجاً ، لكن ملك الجن تجهم وأمر أن يصمت الجميع ثم قال : لم أُنهِ ما أريد قــوله
، ورمق بنظرة صارمة الرجل الذي قاطعه بالتصفيق ، ثم أكمل : رغم أنه حقيقي أن البشر
أنجزوا العديد من الأشياء التي تفوق قدرة الحيوانات ، فإن المتحدثين نيابة عن
الحيوانات قد عرضوا قضيتهم بطريقة مقنعةٍ جداً . فلقد أوضحوا أن الحيوانات لا
تحتاج العديد من المهارات والمعرفة التي يمتلكها البشر ، وأنها وفقاً لاحتياجاتها
قادرة على جعل حياتها مبهجة . وأوضحت الحيوانات أنها بريئة من الصفات السيئة التي
توجد في جنس البشر مثل الطمع والحسد والبخل . ولا شك أن الحيوانات تفوق البشر من
هذه الناحية ، مما يجعل من الصواب أن يكون البشر عبيداً للحيوانات وليس العكس كما
زعموا .
وهكذا حان الدور على الحيوانات لتسعد ، بينما
بدا الحزن على البشر وقد نظروا إلى أقدامهم لأنهم عرفوا أن ما قيل عن صفات البشر
السيئة أكثر الأشياء صحة . وبعدها عاد الجميع للصمت تحقيقاً لإرادة ملك الجن . وأكمل
ملك الجن : وجدنا أنه من الصعب أن نصل إلى قرار بشأن هذه القضية ، حيث أن الطرفين
قد قدما حججاً قوية لتدعم تفوقهم . واتضح لنا أنه لا البشر أو الحيوانات لهم الحق في زعم تفوقهم ، لأن
كلاهما مختلف تماماً عن الآخر . لكن في الختام قدم الرجل القادم من مكة والمدينة
الحجة الدامغة التي تدعم زعم البشر . وعندئذٍ فقط
اقتنعت بتفوق البشر ، فلقد أخبرتنا الكتب المقدسة أن الإنسان متفرد ومختلف
عن بقية الحيوانات من ناحية واحدةٍ فقط . وانتظر الرجال والحيوانات في صمت مطبق أن
يكمل ملك الجن كلامه فلقد عرفوا أن الوقت
قد حان ليسمعوا حكم الملك النهائي .
وقال ملك الجن بصوت كله جلال : الإنسان
أرقى من كل الحيوانات لأنه الوحيد الذي اختصه الخالق العظيم بحياةٍ بعد الموت . وهذه
الحياة بعد مفارقة الدنيا ، قد تكون في جنان الفردوس أو لهيب الجحيم ، وللإنسان
الحق في اختيار كيف يعيش حياته على الأرض .
وعلى الجانب الآخر ، ليس لدى الحيوانات
سوى حياة واحدة تعيشها على الأرض ، وضمنت أنها لن تعيش بعد الموت . ولأن الخالق
القدير قد خص الإنسان دون الحيوان بأن وعده بحياةٍ ممتدة بعد الموت ، فإنه ولهذا
السبب يجب اعتبار الإنسان أرقى من الحيوانات ، وأنه السيد عليهم . هذا حكمنا .
وعند سماع هذه الكلمات صفق الرجال
الحاضرون مبتهجين ، بينما قام بعضهم بدق الأرض بأقدامهم تعبيراً عن الابتهاج
بالنصر على الحيوانات . أما الحيوانات فلقد رفعت رؤوسها في صمت ، لأنها أدركت أنه
من الآن تم إعلان البشر سادة عليها ، ويجب على الحيــوانات قبول أن تكون عبيداً
لهم .
ومرة أخرى لم يكن ملك الجن قد أكمل كل
ما لديه ، وظل واقفاً أمام الرجال والحيوانات بانتظار خمود فورة الابتهاج ، ثم رفع
صوته مستكملاً حديثه إلى جمع الحاضرين من الرجال والحيوانات ، وقال : لكن لا يجب
أن يتخيل الرجال أن كونهم أرقى من الحيوانات يجعلها عبيداً لهم ، لأننا جميعاً عبيد للخالق القدير ويجب أن نطيع
أوامره . يجب أن يعرف الإنسان أنه كما له حقوق على الحيوانات ، فعليه مسئوليات
تجاهها . يجب أن يعرف أنه سيد على الحيوانات فقط لأن الخالق قد اختار الإنسان
خليفة له على الأرض . ويجب ألا ينسى الإنسان أنه مسئول أمام الخالق عن الطريقة
التي يعامل بها الحيوانات ، مثلما هو مسئول عن سلوكه مع رفاقه من البشر . إن
الإنسان يحمل مسئولية ثقيلة ، لأن الله القدير - كما نعرف - في يوم الحساب سيحاسب
الإنسان على أفعاله . ولنتذكر أنه طوال حياة نبينا " محمد " - صلى الله
عليه وسلم - هناك العديد من القصص التي تحكي عن عطفه على الحيوانات. ولنتذكر أيضا
أن العديد من أقوال النبي تذكر الإنسان بواجباته تجاه الحيوانات : يساعدونها في
حياتها ولا يلحقون بها الأذى ، ويقدمون لها الطعام عندما تجوع والماء عندما تعطش ،
ولا يجهدونها في العمل عندما تكون متعبة ، ويظهرون الاهتمام بها بكل طريقة ممكنة .
والآن أطلب منكم جميعاً أن تعودوا إلى بيوتكم في سلام وتحت حماية الله القدير .
ومشى الجميع ، الحيوانات والرجال ، مستغرقين
في التفكير والصمت ، وغادروا بلاط ملك الجن .
جزيرة
الحيوانات
دينيس جونسون دافيز
ت : ياسر شعبان